البراغماتية… أو التجلّي الآني للمعتقد في علاقته بالواقع والمصلحة

عُني شارل بيرس بقضية تحديد الأفكار وتوضيح المعاني بوصفها القضية الأم للفكر الإنساني في العصر الراهن، وقد جاء في مقاله الشهير “كيف نوضّح أفكارنا؟”: أن المفهوم لا يكون ذا معنى إلا إذا أنتج مضمونُه تأثيراتٍ على الخبرة العَينية، والمفهوم يتقوّم على أساس كونه فحْصا للعادات السلوكية التي ينتجها الاعتقاد، وأنّ اتضاح المفهوم يحصُل في حالة التحقق من النتائج التي يُفرزها (المفهوم) والتيقُّن منها، فما معنى وما أهمية أية فكرة نحملها؟

يجيب بيرس بأن معنى الفكرة يتحدد في السلوك المتولِّد عنها وكيفيته، وهو ما يعني أن “قيمة الفكرة” تكمن في نتائجها العملية، والنتائج العملية هنا هي حصرا الإحساسات المباشرة، ما يجعل من فلسفة بيرس فلسفة مثالية موضوعية، فهي مثالية لكونها اعتبرت الأفكار مبدأً للسلوك، وهي موضوعية في حصرها للفكرة في نطاق الحس المباشر.

يرى بيرس بأن القدرة على التحديد الدقيق لجميع الظواهر الخِبرية الممكنة التصور يُحقق تحديد المفهوم تحديدا تاما، وأن إدراك مضمون التصورات يحصل بفضل التعرف إلى دلالة التأثيرات المباشرة لشيء ما، وأن تصور أي موضوع إنما هو محصور في النتائج المباشرة التي تحصل عنه، وفي النهاية فإن إجمالي التصورات الذهنية هو فقط ما يرتبط بالحس الذاتي، ومن ثم فإن الحقيقة تكمن في الاعتقاد أو الفكرة التي نتجت عنه، أو بعبارة بيرس: “فكرتي عن أي شيء هي فكرتي عن آثارها المحسوسة”.

وإذا حاولنا حوصلة التصور البيرسي عن موضوع الحقيقة نجد أنه يتكون من الاعتقاد أولا، ثم الفكرة الناتجة عنه ثانيا، ثم السلوك الذي لا يمكن أن يخرج عن نطاقهما، وبه فإن المعيار الرائز هنا هو الحس المباشر، فلا تأجيل أو إرجاء في تأويل السلوك إلا على أنه نابع من اعتقاد، وبالتالي فلا مجال للإرجاء في تأويل الحقيقة بصرف النظر عن الظرف الزماني (أي في صِفر زمن) خاصة وأن قيمة الأفكار تتحدد في حصولها الفعلي بصرف النظر عن الظرف المكاني (أي في صِفر مكان).

والطرح النظري المتقدّم هو في الأساس متعلق بالمعتقدات العلمية ومعناها، وبالتحديد كيفية توصل الباحث إلى معنى الاصطلاحات العلمية، فرأى بيرس أنه لا سبيل أمام الباحث إلا استيحاء المعاني من الممارسة العملية (بلغة بن نبي الأفكار التي تحمل كثافة الواقع)، ذلك أن المصطلح هو معادل للممارسة المطبّقة والخبرة المعيّنة، إذ يقتضي الأمر في النهاية ترادفا بين الخبرة وتصور معناها.

ولما كانت غاية السلوك هي تحقيق المصلحة، وكان الفكر في علاقة تبعية وتلازم مع السلوك، أمكن اختزال الفكر في المنفعة والمصلحة المحصلة من السلوك، وأن معنى التصور أو الفكرة أو المفهوم يكمن فيما يتحقق من تحكم ذاتي في كل موقف حاصل وكل هدف منشود، ويقتضي التصور البيرسي للموضوع أن تكون الحقيقة قائمة في وحدة زمنية قصيرة لا تطاول فيها، استنادا إلى العلاقة المباشرة بين الفكر والسلوك (وهنا تجاوز للفلسفة المثالية وقبلها فلسفة التنوير التي لا تشترط الزمن في تحقق الأفكار بقدر ما تعتمد شروط منهجية لابد من استيفائها)، في ذات الوقت الذي تشكل فيه المصلحة العنصر الضروري المتمم لتلك العلاقة.

يرفض بيرس اعتبار أن المنفعة العملية تعني الصدق الموضوعي بقدر يعتبرها بشكل صريح “المصالح الذاتية للفرد”، وهذا يعني لديه أن الواقع الموضوعي يساوي الخبرة الذاتية، ومعنى الصواب لا يخرج عن تحقق مصلحة الفرد، وبه فإن السلوك ليس مجرد حدث من بين سلوكات وأحداث أخرى إنما هو في الأصل وسيلة لتحقيق غاية هي المصلحة، وتحقق المصلحة ليس فقط معيار صدق إنما معيار خيرية أيضا.

بعد ذلك، نصل مع بيرس إلى البناء على ما تقدّم، فيرى بخصوص المعتقد أنه هو أصل تكوّن العادة، وأنها من ثم التجسد البيولوجي للفكرة، (الربط بين الانعكاس الشرطي والمثالية فالعادة ليست صمّاء كما يعتقد الفزيولوجيون كما أن الفكرة ليست مجردة كما يعتقد المثاليون)، وبه يصبح التحكّم في العلاقة بين السلوك والمعتقد ممكنا، فإذا سلمنا أن المعتقد ينشأ ويتركز في “الجهاز العصبي” أمكننا أن نتحكم في العادة عن طريق التصرف في المركز العصبي عن طريق تثبيت ما نريد، وبالتالي يصبح بإمكاننا توليد السلوك الذي نشاء.

وفضلا عن الجانب العملي كشف بيرس عن نزعته اللاعقلانية بإقحامه عنصر الغريزة ورأى بأن العقل لم يعد وحده هو مصدر المعرفة، وقد رمز إلى الغريزة بالعين والقلب وأنهما مصدران للإدراك، وقال بأن: “اعتقاداتنا أجلّ وأكثر يقينا من نتائج العلم”؛ وإضافة إلى الغريزة اعتبر بيرس أن المصادفة حقيقة موضوعية وأن العالم لا حتمية فيه، وأن كل قوانين علمية هي على سبيل التقريب بينما تبقى المصادفة هي القانون الأعم والأشمل، ويطلق عليها اسم الوجدان، وأن أهمية الغريزة أنها تكشف علاقته بالكل دون العقل، وهو في ذلك يوافق برغسون في قوله أن الإحساس بالكلية وارتباط الإنسان بكل موحد إنما مصدره الحدس لا التأمل.

وبعد إسقاط فاعلية العقل وتأكيد فاعلية الغريزة، لا يبقى غير الظن والاعتقاد، فالإنسان في النهاية يعيش وفقا لاعتقاد يصوغه من خلال خبرته الذاتية وتحكيم سلوكه في الحياة، وأن تكوين الفكرة عن الشيء ينطلق من نظرتنا لآثاره المحسوسة؛ وانطلاقا من كل ما تقدّم يرى بيرس أن السلطة الحاكمة أو الدولة هي التي تمثل غاية فكرة المصلحة ومن ثم فإنها ستفيد من إمكان غرس الاعتقادات في أذهان الناس حتى يسهل توجيههم إلى حيث تريد نحو تحقيق مصالحها.

المرجع: العقل الأمريكي يفكر: من الحرية الفردية إلى مسخ الكائنات، شوقي جلال، مكتبة مدبولي، 2000، ص 81 85

داخل شروح
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167259
اليوم : 141
الأمس : 117
هذا الشهر : 4435
هذا العام : 15971
مشاهدات اليوم : 617
مجموع المشاهدات : 506771
المتواجدون الآن : 3