فلسفة التقنية عند مارتن هيدغر (2)

محاضرة مقياس المدخل إلى مجتمع المعلومات

انتهينا إلى أن العلل الأربع (المادية الصورية الغائية الفاعلة) تقوم بعملها داخل عملية الانتاج التي بفضلها تظهر الأشياء إلى الوجود، وانتهينا إلى أن الإنتاج بمفهومه الواسع ينقل الأشياء من حالة العدم إلى حالة الوجود. الانكشاف (أو الخروج من حالة الغياب والتستر إلى الظهور والتجلي). فما هي علاقة التقنية بالانكشاف؟

إذا اعتبرنا التقنية أداةً، فإنها وبعد تحليلنا المتقدّم صارت نمطا من أنماط الانكشاف، أي نوعا من أنواع الحقائق الموجودة في الوجودة ليس للإنسان خيار في قبولها أو ردها. فكما يأتي الإنسان إلى الوجود تأتي التقنيات إلى الوجود، ولما نقول أن التقنية حقيقة فإننا نعتبرها امتداد للطبيعة، فلا فرق بين ثمار الأشجار مثلا وبين ما تنتجه المصانع من وسائل تقنية.

وفي ذلك يقول هيدغر: “هذا المنظور يدهشنا، ينبغي أن يدهشنا لأطول مدة ممكنة” ص 53. وبما أن التقنية انكشاف والانكشاف دائما يحمل معنى ودلالة الإثارة والدهشة. فإنها تستحيل إلى إنتاج شعري (poietique)، لذلك فالتقنية ليست مجرد صياغة ينجزها الصانع بخبرته، وإنما فن من الفنون الجميلة.

فإذن التقنية هي إنتاج شعري تتدخل فيه الفن والعاطفة (وهنا يحصل التقابل بين العلم الفن حيث سنرى أن التقنية في الماضي خضعت للجانب الشعري أما اليوم فهي خاضعة للجانب العلمي). فالإنتاج التقني في الماضي كان حالة شعورية تنتاب الإنسان المنتج لتلك التقنية فهو ينصهر معها شوقا من أجل إخراجها إلى الوجود قبل أن تكون مجرد صناعة بنال عليها العامل أجرة.

لكن هل هذا التعريف للتقنية ينسحب أيضا على التقنية الحديثة؟ وهذا سؤال يفترض أن التقنية الحديثة مختلفة عن سابقاتها؟

إن المدخل الأول للقول بخصوصية التقنية الحديثة هي أنها قائمة على العلم الحديث الذي يتسم بالدقة، وأكثر من ذلك أن العلم الحديث صار يخضع للتقنية، بل وصار تقدّم العلم الحديث مشروطا بتقدم التقنيات المخبرية العلمية.

إذن فما هي خصوصية التقنية الحديثة التي صار لها السبق حتى على العلم؟

إن التقنية الحديثة تقوم على إخضاع الطبيعة لرغبات الإنسان تكون من خلالها مسخرة لتقديم خدمة يمكن أن تستخرج وتراكم. الاستخراج Extraction   والتخزين Stockage. وهو ما يسميه هيدغر بالتحريض. أي تحريض الطبيعة على تقديم أشياء لا تقدمها لو تركت على طبيعتها. فالاستخراج والتخزين خاصيتان للتقنية الحديثة لم تتوفرا في التقنية ما قبل الحديثة

مثال طاحونة الهواء (لاستخراج الماء وصحن الحبوب وصارت تستعمل اليوم لتوليد الطاقة الكهربائية). هي مرتهنة في عملها بهوب الرياح. كما أن المزارع عندما يزرع البذور كان يعهدها إلى قوى النمو الموجودة في الطبيعة. إلا أن الزراعة الحديثة صارت تتدخل في قوى النمو تلك  وتقوم بالتصرف فيها (الأسمدة الصناعية لتحفيز التربة، تلقيح الأنواع الزراعية لاستخراج فواكه وخضار هجينة، التصرف في مكونات المحاصيل الزراعية قبل وبعد حصادها، تكييف الجو للحصول على ثمار في غير وقتها مثل البيوت البلاستيكية). ذلك ما يسميه هيدغر بالمطالبة والتحريض. أي بعبارة أخرى عدم ترك الطبيعة على طبيعتها.

يقول هيدغر: “لقد أصبحت الفلاحة اليوم عبارة عن صناعة ممكنة للتغذية”. حيث الغاية من التدخل في طبيعة الطبيعة هو المراكمة عن طريق التخزين (وتلك هي فلسفة الثورة الصناعية أي إنتاج السلع بأكثر من الحاجة).

ومن الفروق الملاحظة مثلا في التعامل مع الثمار في النمطين الحديث وما قبل الحديث هو اعتماد الأول على التجميد والثاني على التجفيف. (اللحوم التين التمور والأسماك) حيث يتم اعماد طرق طبيعية في الطريقة التقليدية مثل منع الهواء عن التمر والتين بحيث يتم عجنها وإغلاقها وضع الملح للحوم…

بينما في الطريقة الحديثة يتم اعتماد التجميد عن طريق المجمدات. والتجميد هو إيقاف الحالة الطبيعية للمأكول أو الثمرة. وهذا نوع من التحريض العكسي للطبيعة فالإنسان يريد الحصول على وضع غير طبيعي من الطبيعة. وكذلك الحافظات الغذائية تدخل في الطبيعة.

يضرب هدغر مثال آخر بخصوص استعمال نهر الراين لتوليد الكهرباء عن طريق بناء السد. والسد هو تدخل في طبيعة النهر الجارية، فالنهر يسير منذ قرون ولن يتدخل الإنسان لإيقافه إلا في العصر الحديث لبناء السد وتوليد الكهرباء.

أما غاية ما وصلت إليه التقنية في ما قبل الحديثة في النهر هو أنها لم تتجاوز تشييد القنطرة الخشبية التي تربط المشاة بين ضفتي النهر. فهي إذن لم تصل إلى حد التدخل في تغيير طبيعة النهر، فالتقنية الحديثة جعلت نهر الراين نهرين (أو قسمته إلى وجهين)

1- النهر المحبوس لاستخراج الطاقة وتخزينها

2- النهر الجاري ذي البعد الفني الجمالي (الذي أنشد له هولدرلين)

لكن الملاحظ أنه وحتى الجمالية تلك انصهرت في التقنية الحديثة (ابتعلت) وذلك عندما تم إنشاء الصناعة السياحية وكالات السفر واستثمار العطل فصار النهر  معرضا لتدخل الإنسان في جماليته.

فإذا كانت التقنية بالمفهوم الفلسفي العام هي (ظهور الشيء بعد خفائه) فإن التقنية الحديثة اتخذت سمة الاستفزاز والتحريض بحيث أن مسارها كان كالآتي:

1-     تحرر الطاقة المختفية في الطبيعة (الجانبين الفني والنفعي المباشر)

2-     تحويل الطاقة الطبيعية عن غرضها الأساسي (تحويل وظيفة النهر)

3-     مراكمة وتخزين الطاقة المحولة

4-     الاستهلاك والتكرير وإعادة الإستغلال…

إن مسار التقنية الحديثة جعل التقنيات الجديدة تأتي حسب الطلب ومحددة سلفا، إذ يغيب هنا الاندهاش والحماس العاطفي المرتبط بالتقنية في مفهومها الأصيل، لذلك فهي تأتي مسخرة للتو (تحضير سريع) وفي المكان المطلوب. بحيث قتل شوق الانكشاف. وأن كل انكشاف جديد يكون معلوم التفاصيل قبليا وكذا موجها أيضا إلى استعمال لاحق (التكرير). فلماذا أصبح انكشاف التقنية أمر  لا يثير الحماس. لأن التوفير اللحظي للأشياء يكون نتاج مخزون Stock.

إلا أن هذه الحقيقة لا يمكن أن تظهر حينما تكون التقنية جاهزة وحاضرة للاستعمال. فهي لا تنكشف كمخزون احتياطي معلوم مسبقا. أي أن وجودها ليس ضرورة ملحة. لكنها تبدو كضرورة ملحة  عند استعمالها. أما لماذا تبدو الآن ضرورة ملحة فلأنها مرتبطة حتميا بحاجة أخرى يتم تسخيرها أيضا لأنها تستمد كينونتها من ارتباطها بشيء آخر يتم تسخيره (مثال الحاجة إلى المساحات الخضراء) ومثال طائرة الشحن التي تقف في مدرج المطار تستعد للإقلاع حيث تخفي قيمتها ولماذا وجدت أصلا (الناس لا تفكر في البعائد) وإنما قيمتها الظاهرة الآن هي أنها ستشحن سلعة معينة إلى مكان آخر فقط. وهي لا تنطوي على أهمية أصلية مثل أن تنقل مثلا حاجات ضرورية للآخرين. إلا  كونها تشكل عنصرا داخل دائرة متكاملة هو الذي يجعل منها ضرورة حقيقية. (التقنية جعلت دائة حياة الإنسان كبيرة ومعقدة).

المثال المقدّم في ص60 دليل على أن الإنسان صار أداة، وإذا كان هو الكائن الوحيد الذي يعقل معنى (العدم: أي الشيء قبل وجوده) فإن هذه الخاصية ستزول عنه بشكل نهائي ضمن إطار التقنية الحديثة ونعود إلى فكرة القطيع النيتشوية.

وأننا صرنا أمام دوامة لا أحد يفكر فيها بل الكل مفكر له ولا أحد يفكّر في. بمعنى آخر إن نهاية شيء يسمى خروج الشيء من العدم إلى الوجود هو نهاية الإنسان لأن في ذلك نهاية للفن والعاطفة والاندهاش، أعني الجوانب الإنسانية في الإنسان. وذلك حين يصبح كل شيء معروفا وكل ما سيوجد معروف مسبقا.

لكن السؤال هل أن هذه الدوامة ستدوم؟

لا يفترض أن يوجد للدوامة نهاية. فهي ليست مسارا بل هو دوران إلى لا إلى نهاية. لذلك فالدوامة ستبتلع البشر ليكونوا مجرد أدوات وأن الإرادة التي صيرت البشر أدوات صارت هي الأخرى أداة، وكأنه عقل صنع لنفسه دوامة فاجتذبته هذه الدوامة إليها ولم يعد من أحد يفكر، فانتهى شيء يسمى التفكير، والمقصود بالتفكير هنا هو النظر والرؤية خارج السياق (غير منصف).إن الإنسان الذي يمتهن صناعة الخشب هو نفسه الإنسان الذي يقرأ الجريدة، والخروج عن النسق هو أنه على الإنسان أما أن يتوقف عن صناعة الخشب وإما أن يتوقف عن قراءة الجريدة وهذا أمر غير ممكن لحد الساعة !

فالكل أصابهم السكر بخمرة التقنية ولا أحد يريد أن يصحو فإذا وجد من أراد الصحوة وجد أن ذلك أمر غير ممكن.

داخل المحاضرات, شروح
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167257
اليوم : 139
الأمس : 117
هذا الشهر : 4433
هذا العام : 15969
مشاهدات اليوم : 608
مجموع المشاهدات : 506762
المتواجدون الآن : 2