أسئلة الفكر وأجوبتها (2)

لابد بداية أن أوجه تحية خاصة للطلبة المتابعين على أسئلتهم الهامة والمركزية والتي تنم عن حصافة وفهم مميز لما نطرحه من أفكار عن الفكر الظاهراتي وأهمية توظيف البعد الذاتي في ممارسة التفكير والسؤال وخاصة ربطهم كل ذلك بالحاصل في المجالين العلمي والواقعي، فما يأتي هنا هو محاولة لتقريب بعض مستغلقات الظاهراتية التي هي في النهاية “فقه فاعلية الفكر” أو كيف يكون للبحث العلمي دور في استئناف الفعل الحضاري علميا وعمليا، وقد تمحورت الأسئلة والأجوبة حول الذاتية في البحث العلمي وعلاقتها بالشغف البحثي وحبّ التعلم، وثانيا العلاقة بين الحواس الباطنة للإنسان والعالم الخارجي، ولماذا الظاهراتية هي تحرير لكوامن النفس السلبية للانطلاق الجماعي في استنئناف مغامرة التفكير، ولماذا نحن بحاجة إلى إعادة استكشاف جذرية للقرآن الكريم وفقا لهذا المنظور… ومسائل أخرى، متابعة شيقة.  

السؤال: الوعي عبارة عن حاسة داخلية به نتعرف على العالم الخارجي المعنوي أي هو عبارة عن قناة داخلية تصب في داخل الداخلية وقد نقصد به هنا الذات، بماذا ينمى هذا الوعي كي تستطيع أن تفهم العالم كما أن للحواس الخمس تنمية خاصة عن طريق اكتساب المهارات وحقيقة هذه المهارات مفعلة في الواقع من خلال تدريبات وتكوينات؟

الجواب: في مسألة تنمية الوعي بوصفه سبيلا لتعميق الفهم بالعالم عن طريق الحواس الباطنة، فإن الأمر متعلّق بإرادة حقيقة من الباحث لفهم العالم تسليما منه بأنه يتضمّن غموضات لابد من توظيف القدرات الخاصة حتى يمكن اكتشافها، لذلك فإن تنمية الوعي تقتضي أولا التكوين المستمر في المجال المراد استكشافه من خلال الاطلاع على التراث (الدراسات السابقة) التي تقدّمت في الموضوع، بوصفه تفاعلا من الباحث مع الدراسات والاجتهادات حصلت من قبل، أعني أن يعرف كيف قامت العقول المبدعة بطرق الموضوع فهو يحاول استلهام الروح التي بها تم تناول الموضوع ومن هنا أهمية اختيار الأمهات في العلم والتخصص والموضوع المدروس اختصارا للوقت، وثانيا من أجل أن لا تأت أسئلة البحوث مكرّرة ومجترة، خاصة ونحن نعلم أن لكل علم أو تخصص “قمّة” أو ذروة يقف عليها، لذلك يتحتم على الباحث الجاد الوقوف على مابلغ إليه تخصصه حتى يتمكّن من صياغة أسئلة تتناسب بلغ إليه الفكر الإنساني في هذا الموضوع، ومن ثم يربط كل ذلك باهتماماته الخاصة حتى يحصل الانصهار بين “ذروة العلم” كما هي حاصلة في العالَم و”الشغف الذاتي” بالوصول إلى الإجابات عن الأسئلة واكتشاف الغامض من القوانين والحقائق.

السؤال: الحواس الباطنية التي تكلمت عنها، هل لها اعتبار في العالم الخارجي تعمل في نسق واحد أم أنها اعتباطية أم تكمن كل واحدة وراء كل حاسة من الحواس الخمس التي كانت تتفاعل معها؟

الجواب: يمكن أن نقابل بين الحواس الظاهرة باعتبارها أدوات للتجريب العلمي الوضعي والحواس الباطنة أدوات للتجريب العلمي الظاهراتي، وهذا كما تقدّم محاولة مني لدمج المعطى الفلسفي الكلاسيكي الحواس الباطنة بما هي: ذاكرة وفاهمة وواهمة ومُخيِّلة وحس مشترك في المنهج الظاهراتي المحدث، أما سؤالك عن كيفية عمل الحواس الباطنة وهل هو اعتباطي أم نسقي محدد وقبل ذلك هل لها اعتبار في العالم الخارجي فطبعا هو سؤال يبحث عن فاعلية تلك الحواس وكذا عن إمكان الوصول إلى قانون عملها لوحدها أو في علاقتها ببعضها، بالنسبة لفاعلية الحواس الباطنة فطبعا تظهر في النتائج التي تحققها والتي تظهر في الوعي بالعالم الخارجي، فكلما كان العالم الخارجي واضحا في الوعي كلما تيسّر التحكّم فيه وتسخيره، وهو لا يجانب مشروع فك السحر عن العالم الذي رفعته الحداثة الأوروبية، بل هو سيكون له دور في فك السحر عن القرآن والوصول إلى القوانين الوجودية التي يحملها القرآن الكريم كما طرحتها في مقال لا تاريخية القرآن – ما دام القرآن ليس سيكولوجيا ولا أيديولوجيا محمدية -، وانطلاقا من الظاهراتية في حد ذاتها فإن أي موجود في العالم الخارجي لا يكون له معنى إلا إذا استوعبه الوعي، واستيعاب الوعي للموجودات يعني أن يضفي عليها نظاما معينا حتى أننا نستطيع القول أن الوعي ليس إلا إضفاء النظام على الأشياء، وغياب النظام عن الأشياء يعني أنها أنها خارجة عن الوعي حتى ولو كانت جزئياته متوافرة، وبه فإن الوعي مرتبط بفهم الرابط الكلي بين الجزئيات، فهمها مرتبط بإرادة الربط بين تلك الأشياء، وهنا نصل إلى المسألة الثانية والمتعلقة بإمكان الوصول إلى النظام الذي يحكم الحواس الباطنة، إذ هو في البداية سعي طموح جدّا وخطير في الآن ذاته لأنه محاولة للوصول إلى كيفيات عمل الوعي البشري بشكل عميق، وهي هنا محاولة للخروج من نسق “الانعكاس الشرطي” القائم على تقاطب ثنائي بين العالم الخارجي والإدراك إلى نسق يقوم على استصحاب جملة الوعي الإنساني -دون اجتزاء- في فهم العالم ليس لتحقيق سلوك نمطي من طرف إرادة خارجية وإنما إلى تحقيق “سلوك يتناسب مع ظروفه” اعتمادا على إرادة الفاعل نفسه، وذلك كله قائم على مهمة افتكاك موضوع الحواس الباطنة ونظام عملها والسؤال قبل ذلك هل هي تمتلك نظام أصلا، ولعلها اللحظة المناسبة لذلك للخروج من حالة الانسداد التي بلغها الفكر الإنساني؛ وهنا لابدّ من ذكر بعض المحددات الهامة في الموضوع وهي: أولا التسليم بوجود عالم لا سببي في الإنسان وفي العالم، وأن هذا العالم اللاسببي لا ينفي وجود معالم نظام ممكن ذي معالم عامة، وثانيا الخروج من حالة المنطق السببي فإضافة بعدي الترجيح والتحقيق الذي يحفز العقل للاجتهاد وفقا لظروفه الخاصة وليس استنادا إلى أسباب كونية صارمة.

السؤال: قلتم أن الظواهرية تسعى لكي يستقل كل فرد بتفسيره الخاص-الدين- لكن هنا المشكل الذي نراه في واقعنا لهذا الدين بين غلو وتطرف ناسين بأن هناك آيات واضحات هي معايير لغموض الحياة قد نقول أنها النموذج –الآيات الواضحات- فلا داعي لصناعة نموذج ذاتي؟

الجواب: شكرا على هذا السؤال، فهو يجعلني استفيض فيما أشرت إليه في السؤال المتقدّم بخصوص حول أهمية استكشاف القوانين الوجودية الموجودة في القرآن الكريم، أعني أن القرآن له طابع ظاهر يحيلنا إلى المجتمع والثقافة التي نزل فيها، ومن جهة أخرى لابد علينا أن نقرأ القرآن بوصفه نصا متجاوزا للعصور والثقافات وهذا يفرض علينا البحث من جديد لافتكاك ما هو جوهري في ظاهر نصوصه، ومن ثم فالآيات الواضحات هنا المقصود بها وضوح معناها لكن المطلوب منا أكثر من ذلك هو إيضاح الجوهري من العرضي في النص من جهة، ومن جهة أخرى الذاتية في فهم النص لا تعني أن الأمر تحكّمي واعتباطي لا يخضع لشروط، وأولى شروط تفهم القرآني هو امتلاك الذوق الشعري والتصور الرياضي حتى نتجاوز الفهم الذاتوي المرتبط بمجرد خواطر وأفهام غالبا ما لا تستند إلى استدلال حقيقي، بينما الظاهراتية في فهمها المكتمل هو استعمال الفهم الذاتي بداية لكن من أجل الوصول إلى حقائق يمكن الاستدلال عليها منطقيا وعقليا، وبالتالي فالمنتظر منا أن نفهم القرآن بوصفه قوانين وجودية أصيلة أصالة خلق الله لهذا العالم…

السؤال: قلت بأن المقاربة النظرية منهج مساعد على التأمل الذاتي أليست النظرية نفسها فكرة مسبقة قد تشوش على التأمل الصافي؟

الجواب: إدراكك بأن النظرية العلمية قد تشوش على ما سميته التأمل الصافي أمر مهم جدا، فمهما أوغلت النظرية في علميتها فإنها ستتحول في وقت من الأوقات إلى مجرد تراث قد لا يتناسب مع “جملة” المعطيات المستجدة في العلوم، فالمعلوم أن النموذج التصوري (الباردايم) ينتج عن عدّة تغيرات وتحولات تحصل في مختلف التخصصات وحتى الواقع نفسه، إذ هنا تحديدا نحتاج إلى التأمل الصافي متحررين تماما من التراث العلمي حتى يمكننا بناء نموذج يتناسب مع الراهن النظري والعملي، وهذا مرتبط بإدراك أن النموذج القديم لم يعد يلب الحاجة وأن فهم الحاصل من التطورات في النظر والعمل بالشكل الصحيح يتناسب مع نموذج جديد لابد من البحث عنه وتفهّمه وتفهم مقتضياته؛ ولعل المقاربة التأويلية (الهيرمينوطيقية) والفلسفة الوجودية هي التي عبّرت عن ذلك بأفضل الأشكال، إذ المعلوم أن التأويل يشكل أحد المضامين الأساسية للفلسفة الظاهراتية، أما الفلسفة الوجودية فهي سليلة الظاهراتية هي الأخرى، ومن ثم فهي أفضل النظريات في تحقيق التأمل الصافي الذي ذكرت، وطبعا مع كل ذلك تبقى الظاهراتية تراثا إنسانيا قد يرد عليه الخطأ وقد يتقادم في مضامينه المنتَجة، إلا أن إدراك الباحث لروح الظاهراتية يجعله دائم التيقظ من التحجر على أشكال محدّدة من التفكير…

السؤال: أليس من الضروري للعلم في مجتمعاتنا أن يتمرن على الصرامة العلمية وفق المنهج الوضعي حتى يتحرر من العبثية والتشوش المعرفي واللاهدفية…ثم يتأهل للمنهج الظاهراتي الذي يعتمد على الصرامة التأمل الذاتي… أليست هذه الخطوة مبكرة جدا لمجتمع يفتقر لأقل أبجديات البحث العلمي؟

الجواب: هذا من وضع المحراث أمام الثور! كيف ذلك؟ إذا اتفقنا على العبثية والتشويش الحاصلين في مجال البحث العلمي فإن بداية التحرر منه لا تكون أبدا من النهاية المرتجاة، فالصرامة هي غاية نسعى للوصول إليها وقبل ذلك علينا تمهيد الطريق، ومن ثم كان علينا أولا أن نبدأ مما هو أقرب إلى تلك العبثية لترويضها! أعني أنه إذا كان جوهر الظاهراتية أنها تبتعد عن التقنين الصارم للأشياء فإن العبثية كتعريف موضوعي –لا كتعبير قيمي- هي فقدان الضوابط أو بتعبير سالب هي اللانظام عقلا وسلوكا، ومن ثم فإنه علينا كبداغوجيين أن نختار المنهج الأقرب إلى النفس العبثية! وللعلم فإن من أسس الظاهراتية –كما أوردت في مقال الحل الظاهراتي- الأدب الرومانسي النازع إلى كسر الحدود والقيود على الأدب الكلاسيكي، وبه فإني أرى أن من أهم العلاجات التي عليها البدء بها سواء في مجال البحث العلمي أو حتى في مجال “الإصلاحين” الديني والاجتماعي هو محاولة استنطاق الذوات في كمونها ومخزونها الحالي في مجتمعاتنا بما فيه كل السلبيات الممكنة كمرحلة ابتدائية أساسية لتفريغ الشحن السالبة المتراكمة عبر عصور التخلف والانحطاط، وهذا الاستنطاق لن يكون إلا عبر إتاحة الفرصة الكاملة والحرية التامة لهذه العبثية أن تنزاح، وتلك هي روح المنهج الظاهراتي في بلوغ الحقيقة “فهم العالم كما هو” لا كما نريد نحن، وبالمقابل فإن المنهج الوضعي الذي تقترحه كحل فإن مفعوله سيكون سالبا جدا لأنه سيسير عكس الاتجاه، ومن ثم فتصوري بشأن المنهج الوضعي أن يكون استعماله كجزئية بسيطة جدا في مجال البحث العلمي أعني كأدوات مساعدة فقط، لا كمنهج ذلك أن الوضعية كفلسفة وكفكر استعملت ما كان جزءا صغيرا في الفلسفة الظاهراتية وضخمته، والحقيقة الثانية وهي أخطر فإن منظري الفكر الوضعي أرادو بتنظيرهم عن قصد أو من دونه أن يحرموا أتباعهم مما كانوا هم يتمتعون به وهو توظيف البعد الذاتي في البحث العلمي وبالتالي أصابوا البحث العلمي والعلم في حد ذاته بمقتل، لذلك فلا تظنّنّ أن سبب ضمور وهج البحث العلمي وانحداره في المستوى هو كوامن النفس التي هي نتاج تاريخي غُفل، بل هي مضامين المنهج التي هي نتاج تاريخي واعي يعمل بوعي أو بدونه على الحد من إطلاق إمكانات البحث العلمي، لذلك فإن الظاهراتية هي سبيل إلى تحرير البعد الذاتي في البحث مسلّمين بأن طريق المرور إلى الإنتاج العلمي الجاد والمثمر لن يكون معبدا من البداية وبداية تعبيده تكون من السعي إلى إطلاق كوامن الذات بكل مخزوناتها السالبة وتفريغها وشحنها إيجابيا بأقصر الطرق وبأفضل الأساليب نجاعة.

السؤال: إذا كان الفرد من يحمل المعنى كيف السبيل إلى إدراكه و تحسس المنفعة منه؟

الجواب: الفرد لا يحمل المعنى بل هو يضفي المعنى على الأشياء الخارجية، وبالتالي فإن الفرد يملك قدرة إضفاء المعنى على الأشياء، وهو مزوّد بهذه الخاصة دون غيره من الكائنات في الوجود، وذلك لأنها قدرة كامنة على الإنسان أن يخرجها إلى الوجود، وهذا الإخراج ليس له قانون مضبوط وهو مختلف من إنسان لآخر، وهذا هو مبدأ خصوصية الوجود الإنساني ومنه خصوصية العلوم الاجتماعية الأنطولوجية والابستيميولوجية كما نظر لذلك دلثاي وفيبر.

داخل أسئلة الفكر وأجوبتها
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167257
اليوم : 139
الأمس : 117
هذا الشهر : 4433
هذا العام : 15969
مشاهدات اليوم : 611
مجموع المشاهدات : 506765
المتواجدون الآن : 2