في إطار التعريف بالفكر الظاهراتي وأهميته، جاءت هذه الأسئلة من بعض الطلبة المهتمين بالموضوع، والتي تمحورت حول استخدام “الملكات التأملية”، والتمييز بين التقنية والنظرية والعلاقة بينهما، ومعنى استخدام الحواس في البحث العلمي حسب المنظور الظاهراتي، وكيفية بناء الملكات الذاتية في بحث الموضوعات، وأخيرا حول العلاقة بين ظهور الذاتية والإقصاء الفكري… كل هذا وغيره مما طرقناه في الأجوبة حول الأسئلة التالية:
السؤال: هل المقصود بحضور الروح في البحوث هي ظهور شخصية الطالب في البحث؟
الجواب: طبعا ظهور شخصية الطالب في بحثه هو نتيجة لاستخدام “ملكاته التأمّلية” التي تعطيه الدافع والحماس وتمنحه “مُتعة البحث” التي تجعله يستصغر كل ما يبذله في سبيل الوصول إلى نتائج بحثه، والروح العلمية في البحث إذن هي استخدام الباحث لحواسه وشعوره المباشر فلا يبقى دائما حبيس الخوف من إدخال رؤاه وخاصة تلك الناتجة عن “تأملات” جادة في موضوه بحثه، وأعني بالتأملات تلك الخواطر والأفكار التي تحضر في ذهنه أحيانا بشكل فجائي والتي تدخل في صميم موضوع بحثه، طبعا تأتي بعد جهد العمل البحثي الجاد، والمقصود بالفجائية أن العلاقة بين العمل والجاد وزمن حضور الأفكار وطبيعة الأفكار لا تكون ظاهرة، أو بعبارة أخرى أن العلاقة بين العمل الجاد والحضور الفجائي للأفكار لا تظهر كنتيجة محددة ودقيقة لسبب محدد ودقيق ولكنها علاقة سببية يكتنفها غموض ما.
السؤال: هل النظرية تدخل ضمن التقنيات؟
الجواب: سؤال مهم جدا، ولعلك قصدك هو الآتي: هل يمكن أن تشكل النظرية عائقا عن النظر المباشر في البحث مادامت الظاهراتية تشجع إدخال الذات في الموضوع، فغالبا ما يكون الطالب حائرا بين استخدام النظرية والظاهرة المباشرة التي يدرسها، وبه فيجب دائما اتخاذها وسائل إضافية مساعدة، لذلك كان لابد من التمييز بين ضرورة اطلاعنا كمتخصصين على نظريات وتقنيات تخصصنا، وكذلك ضرورة تدريب أنفسنا على إقحام آرائنا الذاتية في موضوعات الدراسة، يبقى الفصل في هل النظرية تبقى في درجة التقنية أم لا؟
طبعا النظرية من جهة بعيدة عن كونها تقنية مباشرة، وبالتالي هو منهج تفكير، ومن جهة أخرى قد تعوق إدخال الذات بشكل كبير في الموضوع، ومن ثم كان المنهج الظاهراتي محاولة للصهر بين التقنيات وبين النظريات بأن جعلت من المفاهيم النظرية والوسائل التقنية أدوات فكرية، أعني أنها معايير عقلية يستعملها الباحث ذهنيا أكثر منها قياسات رياضية وحسية خارجية.
السؤال: ما معنى أن الظواهرية اعتمدت على الحس المباشر؟
الجواب: فعلا توجد مفارقة في الأمر خاصة إذا قارناها بالوضعية التي ادعت أنها تعتمد الحس غير المباشر المتمثل في القياسات النفسية والاجتماعية والمقاربات الموضوعية من اتخاذ الباحث للمسافة بينه وبين الظواهر المدروسة، بينما الظواهرية قامت بالقطيعة مع تلك المسافة واستعمال الحواس الذاتية للباحث في استشعار حقيقة الظواهر.
وإذا تأملنا النزعة التجريبية (القياسية) للوضعية وجدناها تستعمل مثلا الاستمارة من أجل الإحصاء فإن هذا يعتبر قراءة للواقع عبر وسائط غير مباشرة، لأني حتى وإن مررت الاستمارة على جميع الأفراد فإنني في النهاية سوف لن تأخذهم على انفراد بل في شكل مجاميع إحصائية وقس على ذلك المقابلة والدراسة المونوغرافية أو الإثنوغرافية والسوسيومترية والملاحظة بالمشاركة… إلخ فهي وإن أبدت في اصطلاحها نوعا من الانصهار مع الواقع إلا أنها مقاربات تؤكد دائما على المفاصلة بين الباحث والمبحوث إذا ماجاءت ضمن مفهوم اعتبار الظواهر كأشياء خارجية عن الذات، وفضلا عن ذلك هي تقنيات منهجية مختلقة ومن ثم فهي ليست من صميم الذات، وذلك بعكس الحواس والإدراكات التي تعتمدها الظاهراتية.
أما لماذا تعتمد الظاهراتية على الحواس المباشرة فلأن لها صلة مباشرة مع الإدراك، حتى أنه يمكن اعتبار الوعي من الحواس، وإن كان حسا باطنا، ولعل من المفيد هنا استعادة الحواس الباطنة التي شكلت موضوعا فلسفيا عتيقا هي: (الفاهمة والذاكرة والواهمة والمخيلة والحس المشترك)، وأنها جميعا تختزل في حاسة الوعي التي تتفاعل مع الحواس الظاهرة الخمس باعتباره اختزالا طبيعيا يحدث داخل الذات لذاتها، ولا يتوقف الاختزال بل يمتد ليصل إلى اختزال العالم الخارجي في الذات أيضا… وما سينتج عنه من نتائج…
السؤال: هل يتوفر الباحثين المتخرجين من جامعاتنا على الذات الواعية التي تسمح لهم على فهم الدلالات الظاهرة للظواهر والأفعال، وهل يمكن الاعتماد على تجربتهم المعاشة وخبراتهم في ذلك؟
الجواب: طبعا يكفي أن يدرك الإدراك الكافي بأن الظاهراتية تشكل المدخل الأفضل لتحقيق الإبداع في العلوم الاجتماعية، لما تحمله من مدخل إلى إقحام الذات في الموضوع المطروق، وتلك أولى خطوات تأسيس ملكتي الشجاعة في الإدلاء بالرأي ومن ثم ملكة الإبداع، لكن مجرد التصريح بالرأي بالشكل والأسلوب الجيد سيكون أمرا محترما يدفع الباحث لتحسين صورته عن نفسه (التي ستصير الكتابة والتعبير عن مكنونات الذات) بالكتابة المستمرة التي ستعينه على ترويضها داخل البحث العلمي، أعني أنه لا بأس أن ينطلق الباحث بالكتابة الحرة أولا ومن ثم يقوم بإقحامها شيئا فشيئا في بحوثه حتى تكون أكثر نضجا وتوازنا ضمن مضامين البحث العلمية…
ثم وفي حال نضوج الإدراك الظاهراتي في أية لحظة فإنه سيسحب إدراكه على جميع تجربته المعيشة ومن ثم فإن سيستثمرها أيما استثمار، ومن ثم فليس للتجربة معنى في حد ذاتها حتى تتزيا بالوعي ذاته الذي منه تشكلت الظاهراتية، فهي تعتبر أن الزمن الحقيقي ليس الزمن البيولوجي وإنما الزمن الذي فيه يحقق الوعي إدراكاته النوعية، أو حين يتعالى من الوعي الطبيعي البسيط إلى لحظة اكتمال صورة الأشياء لديه والمرور إلى لحظة وعي جديدة….
السؤال: هل نستطيع أن نقول أن بناء الذاتية في التيارات الدينية يؤدي إلى خلق الفتن والتكفير والتضليل؟
الجواب: أولا الظواهرية تسعى لإدخال الذاتية في فهم وتفسير الظواهر وليس لتكوين أحزاب دينية أو سياسية، وأعني أن الذاتية في تفسير الدين لا تعني بالضرورة تأسيس جماعات، بل العكس تماما الظواهرية تسعى لكي يستقل كل فرد بتفسير خاص لنفسه، وليس بأن يكون الأفراد تُبَّعاً لفرد واحد مثلا، لذلك فلا علاقة بين الذاتية والإقصاء، الإقصاء هو فعل سياسي (بالمعنى الواسع) لا علاقة له بالعلم، ومن ثم كان لابد من التمييز بين ما هو علمي، وبين ما هو سياسي، أما الذاتية فهي تتعلق بالفهم الذي هو ممكن لكل كائن إنساني، لذلك فيجب التمييز بين ما هو فهمي متعلق بالإدراك الذي هو طبيعة في كل إنسان وبين ما هو قيادي متعلق بالسلطة التي فيها أتباع ومتبوعين…