سوسيولوجيا مابعد الحداثة أو عقلنة اللامعقول

قراءة في مفهوم العقل الحساس عند مافيزولي

لا بأس أن نفتتح هذا العرض لمفهوم “العقل الحسّاس” داخل السوسيولوجيا، بتنبيهٍ إلى أنه عرض لا يعني فقط المتخصصين والمهتمين بالشأن الفكري عامة بقدر ما هو موجّه للجميع بما فيهم الفضوليين! ذلك أنها مقاربة تُعنَى بالفضوليين وأنها تتوجه إليهم باعتبارها تجاوزت تعقيد المفاهيم القائم على الإجهاد العقلي إلى مفاهيم ذات مسحة فنية وأدبية همها أن تتواصل مع الواقع في لحظاته الخارجة عن العقل والتعقّل أو قل لحظات الابتذال والفضاءات غير الرسمية التي تقع في خلجان الوعي الجمعي الذي يضرب عنها صفحا.

نعتمد هنا القراءة التي قدّمها الباحث المغربي عبدالله زارو مترجم بعض أعمال السوسيولوجي الفرنسي ذي الأصول الإيطالية مافيزولي ميشال، الذي يقطن في قلب باريس والذي ينعت نفسه ببرجوازي صغير يقوم بالانتاج وإعادة الإنتاج والمخضرم بين زمنين يتوجه فيهما برسالتين مختلفتين حد التناقض، الأولى هي الإعجاب بالشباب الذين تعايشوا مع زمان ليس زمن آبائهم وأنه يقف في صفّهم ضد صنف من المثقفين المعترضين –ينعتهم بالعجائز الناقمين- على التغييرات الحاصلة، والثانية هي وكما صرّح التنبيه إلى وضع اجتماعي قائم مفارق جذريا للوضع الذي تولد عن مخاضات القرون الحديثة، وهو يراقب الوضع ويرصد لألاّ يسوء الأمر أكثر! وهو في كل ذلك يتحدّث عن مرحلة انحدار ونهاية مرحلة الشباب في التطور الحضاري للإنسان الأوروبي.

فلا يدّعي مافيزولي تقديم سوسيولوجيا جديدة بقدر ما يسعى لتجديد موصول بالماضي، أو على الأقل وجدت جذوره في الماضي  من خلال “ممارسة الانتقاء والاستلهام الحذق” لما هو دائم التجدد في قدمه ودائم التقادم في تجدّده، وأنه يمارس ذلك من خلال التذكير بالبداهات الأولى التي هي ممكنة الإثبات عن طريق التكرار والإعادة التي يعتمدها هو، وهو في هذا لوبوني النزعة التي تجد في التكرار والترسيخ أفضل وسيلة لتثبيت العقائد والتصورات في النفوس، لكن السؤال هنا هو أننا بهذه الطريقة أننا أصبحنا خارج نطاق العلم الذي يعنى أكثر فأكثر بالتعمق والغوص في الحقائق دون هوادة لا يلقي بالا للمتلقي، لكن يمكن الاستدراك بأن مافي (الذي سنعتمد اختصار اسمه بهذه الطريقة خلال هذا العرض) يصدر في أسلوبه التكريري هذا من جملة من المعارف وعالم فكري متكامل يستطيع من خلاله تقديم التفسير المناسب لكل نازلة، وهو في النهاية يعتبر التكرار استراتيجية ضرورية في سبيل التشكيك في الثوابت التصورية التي تمنع أصحابها من التعاطي السليم مع الوقائع بسبب ثقتهم الزائدة في أنفسهم، وليس لوثوقهم في صلاحيتها!

فلما انتهت كل فرصة للتعلق بضمانات مرجعية سواء كانت سياسية/أيديولوجية/مؤسسية كان واجبا الاعتماد على ما يسميه مافي بالحكمة الاجتماعية (Ecosophie) ذات طبيعة عرفانية غنوصية سمتها أنها لا تتكلف الاعتقاد بوجود مطلقات أو حقائق عامة وأن الواقع بالنسبة إليها هو مجموع حقائق جزئية، وذلك ما أحال مافي إلى نحت مفهوم “النسبية الاجتماعية”، والمحصّلة هو أن انعدام أهداف بعيدة المدى يؤدي إلى منح القيمة للوضعيات الحاضرة والعابرة، وذلك هو المعنى الفعلي والدقيق –إنشئنا- لما بعد الحداثة.

ومن ثم كانت ما بعدالحداثة الحل المقابل للاعتزال الفكري – الذي يفرضه الانفصال الكبير بين وعي حداثي منصرم وواقع مابعد حديث زئبقي قائم – بما هو تأسيس لأخلاقيات جديدة تقوم على سمتين رئيستين هما اعتبار جميع الوضعيات الاجتماعية بما فيها العرضي والعابر والملتبس والغامض، وكذا استبدال المايجب بما هو كائن موجود بالفعل والإحاطة به، وأخيرا استبدال النزعة الأخلاقية بالحساسية المرنة بالاجتماعي نفيا للتفاجؤ والانصدام، وكذا تحصيل القدرة على فهم الحيوية المستمرة والحس المشترك.

إذ بهذا يصبح التفكير ممكنا في استحداث سوسيولوجيا تجانب مشاعر الحظوة الاستعلائية الاقرب إلى باتولوجيا الهذيان وتؤسس لفكر يفكر فيما يوجد بجانبه وبالقرب منه، وحسب مافي التأسيس لسوسيولوجيا مداعبة لا ترتبط بقيود وأصفاد المفاهيم، وذلك من خلال تحكيم أداة التمثل بوصفها استلهام لمكنون الذوات والفاعلين بدلا من وسائل التقويم الأخلاقي والقيمي التي تتعامل مع الظواهر بجمود ووعي جاف أصم.

والحرص على فهم العالم وتقديمه بعيدا عن النَّفَس التقويمي يورث صاحبه التعود على “زهد فكري” يتجاوز الفذلكة المضللة الساعية لتقديم الحقائق كما تريدها لا كما هي معطاة، إذ هنا يحصل الانزياح إلى النمط الأسلوبي والتخلي عن الفكرة الموجِّهة، ثم بعد ذلك تأتي اللغة المجازية لتفرض نفسها ضمن هذا السياق للتعبير عن الحس الاجتماعي واليومي المعيش، وذلك من خلال الاستعارة خاصة بوصفها إجراء يصهر الحسي بالمسعى الفكري العام.

وتنتهي حكاية العقل الحسّاس في الأخير إلى ضرب من الانطباعية الفكرية كممارسة حرة ومتحررة من الصيغ الجاهزة وغير منفصلة عن انسيابية الحياة وتعلّقها بالأحلام التي يشتكل الواقع من طينتها.

داخل شروح
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167252
اليوم : 134
الأمس : 117
هذا الشهر : 4428
هذا العام : 15964
مشاهدات اليوم : 570
مجموع المشاهدات : 506724
المتواجدون الآن : 2