نقد ميتافيزيقا السببية الطبيعية والعقلية عند بيرس

“العفوية الخالصة” مخرجا من التصور الميكانيكي وتفسيرا للتنوع الطبيعي.
وفي أن أصل السببية عقلي بالجوهر والترابط العلي في الطبيعة فرع عنه.
في كتابه “فحص مبدأ الضرورة” 1892، حاجج بيرس ضد مبدأ الضرورة في السببية، المبدأ الذي يعد المسلمة الرئيسة في التفكير العلمي، والتي تنص على أن حالة الأشياء في أي زمن وبفعل القوانين الثابتة تحدد بشكل مسبق وتام حالة نفس تلك الأشياء في أي لحظة زمنية أخرى(*).
وبناء على أن مبدأ الضرورة السببية هو ضرب من التفكير الميكانيكي الذي يعتقد أن الطبيعة ميكانيكية أيضا، في وجودها عبر الزمن، قرر بيرس أنه مبدأ يتعارض مع حقيقة التنوع الموجود في الطبيعة وتعقيدها المتزايد، إذ من غير الممكن أن ينتج قانون الضرورة لوحده كل التنوع الذي نعرفه في الطبيعة، وأن نتيجة تفاعل العناصر والمتغيرات فيما بينها وتأثيرها على بعضها البعض معروف مسبقا وبدقة.

ذلك أن الاختلاف الذي نجده في الطبيعة كنتيجة للأسباب المُتصَوَّرَة ضروريةً يؤكد أن هناك “عفوية خالصة” تتدخل في إقرار النتائج النهائية لمسار العلّية في الظوهر الطبيعية، أي أن مبدأ “تكرر الأسباب يؤدي إلى ذات النتائج” هو مبدأ صوري وليس فعلي، ذلك أن النتائج تتأثر بأسباب أخرى، غير الضرورة، هي التي تؤدي إلى التنوع في الطبيعة، فلو كانت الضرورة هي الوحيدة المتحكمة في صيرورات ظواهر الطبيعة لما رأينا ذلك التنوع(1).
بناء على العفوية الخالصة (أو الصدفة العلمية) المقيَّدة بالقانون الطبيعي، أضحت قوانين الطبيعة عند بيرس احتمالية لا حتمية، ذلك أنه ينتج عن العفوية “انحرافات صغرى” عن القانون الطبيعي، و”انحرافات كبرى” بترددات لامتناهية، وعليه كان تفسير التنوع في الكون بعلّة عمومية هي العفوية الخالصة التي تحكم الطبيعة.
انتهى بيرس إلى القول بأن الدراسة العلمية للعمليات الطبيعية تؤكد ما يلي ص101:
1- علاقة الأسباب بالنتائج تكون قد حُسمت بعد توصل العقل إليها، وهي خطية زمنيا تسير من الماضي إلى الحاضر.
2- الأسباب تقوم بتحديد نتائج العمليات الطبيعية جزئيا فقط وليس بصفة كلية ومطلقة، فهناك دائما هامش من عدم التحديد.
3- العلاقة النهائية للأسباب بالنتائج خاضعة لقوانين احتمالية، لا حتمية.
الحقيقة السببية عند بيرس، ليست جوهرا خارجيا ولا فاعلا في الطبيعة فقط، إنما هي جوهر إنّي فاعل في الذات العاقلة أولا؛ إن مصدر السببية الأصيل عنده هو نزوع الإنسان الفكري لإسقاط العلاقات العقلية على العلاقات في الطبيعة، ما يعني أن أساس العلاقة السببية عقلي ذاتي قبل أن -وأكثر من أن- تكون علاقة طبيعية موضوعية(2).
بذلك، انتقل بيرس إلى بحث مسألة “الفعل العقلي” هل هو خاضع للحتمية السببية، مجيبا بأن لا دليل على أن الفعل العقلي الإنساني خاضع للضرورة السببية، ولا هو قائم على التكرر الثابت مهما كانت الطريقة التي بها يتفاعل العقل مع الإحساسات، ذلك أن طريقة تفاعل العقل ستتغير لو تكرر نفس الإحساس، إذ لو كان تفاعل العقل ثابتا دائما لكانت الحياة الفكرية والعملية جامدة، وستغدو جملة من العادات المكرورة، و لانتهى تقدم الفكر البشري في لحظة بدائية، ولجمدت أفعال البشر عند مستوى الحيوانية.
وعليه فإن اللايقين في الفعل العقلي ليس نقيصة فيه بل هو من جوهره، وهكذا فإن قانون “مجرى العادة” في الفعل العقلي أقل انتظاما مما هو في المادة، إن العقل يتعرض لـ”قوى لطيفة” تجعله أكثر عرضة للتأثر مما لو لم تكن تلك القوى موجودة، إذ يظل دائما في الفعل العقلي ضرب من الاعتباطية العفوية التي تتضمن بعض اعتساف ضد الصرامة العقلية، والتي بدونها سيموت الإنسان على الطريقة البنيوية، ص102.
وعليه، انتهى بيرس إلى صياغة النموذج السببي للعمليات العقلية كما يلي:
1- علاقة السبب والنتيجة قابلة للعكس، على خلاف الموجود في الطبيعة، حيث بإمكانه التصرف فيها، لعرض صورة السببية وهي معكوسة، أي قادمة من المستقبل إلى الماضي(3).
2- لا قدرة للعقل على تحديد أسباب أفعاله التي تؤثر عليه إلا جزئيا.
3- السببية العقلية هي ارتباطية الطابع بعكس السببية الطبيعية الاحتمالية الطابع.
4- السببية العقلية عكسية، ذلك أن تجلي النتائج للعقل يسبق اكتشاف الأسباب.
أخيرا، فضل بيرس التمييز بين السببيتين العقلية والطبيعية من خلال قصر مفهوم “السبب” Cause على الفعل العقلي دون الطبيعي بينما خصص الفعل الطبيعي بتسمية “القوة” Force.
قبل الختم، لابد من الإشارة إلى التماثل بين نقد الغزالي ونقد بيرس للسببية، وكأن الأخير ينهل مباشرة من الأول، على أن الأخير أوضح وفصل وفقا للمستجد من المعطيات، التماثل الذي كان يمكن للأكاديمي والمثقف العربي والمسلم أن يفهمه انطلاقا من بيرس وعودة إلى الغزالي -في استدلال عكسي- ليدرك أن نقد الغزالي للفلاسفة لم يكن نفيا للسببية إنما كان نقدا لما حول السببية، ذلك أن مفهوم العفوية الخالصة البيرسي هو الوجه الآخر لمفهوم الإمكان السببي عند الغزالي، ولئلا يتهم الغزالي بالظلامية جورا وزورا، وكأنه ينفي السببية.
بل إن العائد الابستمولوجي من إدراك نقدي الغزالي وبيرس إنما سينعكس جملة على التصور الكلي للعقل عند المثقف والأكاديمي العربي فيتخلص من أوهام الصور التمامية للمعرفة، إلى رحاب المعرفة التي تعتبر “السببية” أداة وسيطة وحقيقة جزئية في صياغة فهم الواقع وصياغة الواقع نفسه، فتصبح النقلة الابستمولوجية ممكنة من الجمود المدرسي إلى النقد المعرفي الحق، أو قل الانتقال من الرؤية الجحودية إلى الرؤية الشهودية، وهو ذاته التماثل الذي ألهم أستاذنا أبويعرب المرزوقي في تخير الغزالي أبا مؤسسا للنقدية العربية، وهو الذي يلهم أجيال اليوم، بالمعنى العميق والدقيق -بعيدا عن التماثلات الزائفة التي تميل للغزالي دون إدراك حقيقة إسهامه العقلي المحض- لتخرج إلى أفق الاستئناف المعرفي وتدرك الطريق الفعلية في السير فيه واستخراج ثمراته. د/محمد عبد النور 2025/08/25
—————————-
الهوامش:
المصدر:
*)- Peirce and Biosemiotics, Springer 2014, Chapter 06: Semeiotic Causation and the Breath of Life, Menno Hulswit and Vinicius Romanini p 95-126
1- وهو ما يمكن أن نعتبره انتقالا من العمومي السببي إلى الخصوصي العفوي بمعنى أن التحقق الفعلي للسببية يتعرض لمؤثرات خصوصية دقيقة، هي ما يقصده بيرس بالعفوية أو هي أقرب إلى الاعتباطية التي تنتج التنوع وهو ما يسمى في العلوم الاجتماعية بالتفريد (Idiography) مقابل التعميم (Nomothetic).
2- والدليل على ذلك أن صحة الفروض العلمية التي هي توقّع مؤقت للعلاقات السببية ليس أحاديا، فقد تتعدد الفروض التعليلية حول ظاهرة واحدة وتصح كلها، بمعنى أن التحقق من فرض ما، لا يعني أن الفروض الأخرى لاغية أو غير صحيحة مهما تعددت.
3- القول بالسببية العكسية انطلق من نظرية الكوانطا في الفيزياء بناء على اللايقين الذي تؤكده حركة الفوتونات “شبه العاقلة” في الشعاع الضوئي، ومنه حصل استدخال مفهوم اللامكان في الفيزياء non-locality بما هو الترابط بين الجسيمات دون أثر مادي ولا رابط مكاني بينها، بحيث يغيب العنصر المؤثر من المتأثر من رغم الترابط (Entanglement) والتداخل (Interference)، وكأنه انخرام للزمان ضمن النطاق السببي، وهو ما يغيب الترتيب الزمني -من الماضي إلى الحاضر والمستقبل- الذي هو عنصر مؤسس في العلاقات السببية، وهو بذلك يحيل إلى اللايقين السببي، بما هو نقطة التقاء بمقولة بيرس بالعفوية والاعتباطية السببية.
فضلا عن الفيزياء فإن السببية العكسية حاضرة أيضا في مسألة السلوك الإنساني المحكوم بالغايات المستقبلية -كما صاغ فيبر مثلا مفهوم الفعل العقلاني- الذي يجبر الإنسان على الالتزام بواجبات ويفرض عليه ضرورات الحاضر بناء على الغايات المستقبلية التي حددها، وحتى في المجال الديني الذي يسلم بوجود حياة أخروية قادمة سيعايشها الإنسان، وكأنها إلزامات آتية من المستقبل تجبره على تجنب المصير الأخروي السيء، إذ من المفارقات أن تأتي بعض الآيات القرآنية لتتحدث عن اليوم الآخر بصيغة الماضي، باعتبارها من الدلائل على مفهوم انخرام الزمان، وتأكيدا لحضور مفهوم السببية العكسية في الاجتماع الإنساني، وأنه من المفاهيم الحية التي تؤثر بشكل فعلي وظاهر في سلوك الإنسان.
داخل شروح
أكتوبر 2025
د ن ث أرب خ ج س
 1234
567891011
12131415161718
19202122232425
262728293031  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

187797
اليوم : 21
الأمس : 172
هذا الشهر : 4029
هذا العام : 36509
مشاهدات اليوم : 27
مجموع المشاهدات : 551605
المتواجدون الآن : 2