تختلف طبيعة الإنسان عن قوانين الطبيعة التي تسري قبل أن يوجد، وعن قوانين الشريعة التي جاءت بعد أن وجد، على أن مصدر الثلاث واحد، أعني الطبيعة والإنسان والشريعة تؤول إلى موجد واحد، ولما كان الإنسان خليفة عن الموجد في الأرض، اقتضى الأمر أن يكون سيدا عليها، فما معنى سيادة الإنسان على الطبيعة والشريعة؟
أن يتسيد الإنسان الطبيعة والشريعة يعني أن يخضعهما له ليكونا في خدمته، ولحصول ذلك لابد أن يحوز الإنسان طبيعة إنّية تمكنه من القدرة على “الحُكم” عليهما، وتسخيرهما إليه بحسب الحاجة، وتلك الإنية هي الفطرة، والفطرة حالة من الاتزان بين نوازع الغريزة ومتطلبات العقل، بحيث تصبح هي الأخرى أدوات في خدمة الإنسان، لنصل إلى المربع الذي يتسيده الإنسان(*):
1- قوانين الطبيعة
2- قوانين الشريعة
3- نوازع الغريزة
4- نوازع العقل
الأولان خارجيان وهما بيئة الإنسان المادية والرمزية والأخيران داخليان هما كيان الإنسان ذاته، لكنها جميعا ذات صلة بالإرادة الفطرية التي تغدو العامل المشترك بين جميع العناصر، لذلك تعتبر الطبيعة شدّا للعقل كما تعتبر الشريعة شدّا للغريزة؛ فالطبيعة شد للعقل من حيث كونها خفية عن الظهور المباشر له، فهو يجتهد في سبيل استكشاف قوانينها لتسخيرها إليه، وأما الشريعة شد للغريزة فمن حيث كونها تمردا على العادة، فهو يجاهد في سبيل الانسجام مع قوانين الشريعة لتسخيرها إليه أيضا.
لذلك فإن خضوع الإنسان للطبيعة والشريعة هو خضوع بدئي، لكنه في الغاية يتغيا تسخيرهما إليه، من حيث تحقيقه لتحسين حياته المادية بواسطة تسخير الطبيعة، وكذا من حيث تحسينه لحياته الرمزية بواسطة تسخير الشريعة إليه، وعلى ذلك يتأسس مفهوم الاستخلاف بما هي سيادة مطلقة للإنسان يجتهد ويجاهد في سبيل تحقيق مراد الموجد على الأرض.
فإذا كانت الطبيعة والشريعة أداتان في خدمة الإنسان فإن ما دونهما من الموجودات الثانوية أولى بأن تكون كلها أدوات تخدم صالح الإنسان ومنفعته، وأعني بالدنو أن الطبيعة والشريعة متعاليا المصدر، أما ما عداهما فهو من نتائج الأعمال الإنسانية الأربع وما ينتج عنها:
1- المعارف: نتيجة إضافية إلى العقل، فهي ثمرته الظرفية التي تنتج عنه، فجوهر العقل عمله.
2- القيم: نتيجة إضافية إلى الشرائع، فهي ثمرتها الظرفية التي تنتج عنها، فجوهر الشرائع غايتها.
3- المشاعر: نتيجة إضافية إلى النفس، فهي ثمرتها الظرفية التي تنتج عنها، فجوهر النفس أحوالها.
4- التقاليد: نتيجة إضافية إلى المجتمع، فهي ثمرته الظرفية التي تنتج عنها، فجوهر المجتمع تفاعلاته.
ولئن كانت العناصر الأربع هي من حتميات الوجود الإنساني، إلا أنها تبقى دائما نابعة عن مصدر مؤسس لها يعتبر الثابت مقابل حركتها هي، كما تبين، وأنها في مستوى أعمق نتاج تفاعل بين قوانين الطبيعة المتمحورة حول تأثيرات البيئة في الإنسان وحتميات عمل الوراثة فيه، وبين قوانين الشريعة المتمحورة حول بيان كيفيات إصلاح النفس الإنسانية وكشف عمل الماوراء فيها.
وعليه، فإن اكتشاف العقل للطبيعة واستجابة الإرادة للشريعة إنما تستهدف:
1- تحرير الانسان عقليا من الارتهان إلى الغموض في الطبيعة: السحر والأسطورة
2- تحرير الإنسان أخلاقيا من الارتهان إلى الغريزة في الشريعة: الهوى والشر
فهي من ثم بعيدة عن أن تكون رهنا للإنسان في سجون التقييد العبثي، غير ذي المعنى، مادامت الطبيعة والشريعة أداتين في سبيل تحقيق حريته، الحرية القائمة على الفطرة التي تأخذ من الطبيعة ما هي بحاجة إليه وتستجيب لمتطلباتها بقدر ما تفيده منها، كما تستجيب للشريعة بالقدر الذي يحقق غاياتها ويأخذ منها بما يبني به حياة سوية، فليس الأخذ الحرفي المجمل لمقولات الطبيعة والشريعة بمفيد للحياة السوية إلا وفق السياق وحسب الظروف، وهذا نفسه ما مورس حين نزول الشريعة نفسها، وهو ما تمارسه كل حضارة آناء قيامها.
ولما كان الرهان على سوية الحياة قائم على الأخذ المتوازن من الطبيعة والشريعة ما يناسب الظرف، ذلك أن الالتزام الفعلي ليس الالتزام الحرفي بنصوص المعرفتين الطبيعية والشريعية، أو تأويلاتهما التاريخية/المؤسسية، إنما الالتزام الجوهري يكمن في السعي الدؤوب لملاءمة مقولات الطبيعة والشريعة -النصية الموثوقة المصدر- مع الوقائع الظرفية، حيث الالتزام ليس التزام الحرفية والمؤسسية بلا معيار، مع نكران تام لتحولات الوقائع والظروف التي هي من صنع الواجد نفسه، إنما الالتزام هو التزام تحقيق المقصد من الطبيعة والشريعة ضمن الظرف وهو صالح الإنسان ونفعه، وذلك اجتهاد محض، لا دليل عليه إلا نجاح التجربة والاجتهاد.
وعليه فإن الثابت الوحيد في الطبيعة ليس قوانينها، إنما قابلية قوانينها للانتظام وفقا لمنطق العقل الإنساني، وهو معنى ظهور العلم النظري عند اليونان باكتشاف التناسب بين الكون والعقل (الكوسموس واللوغوس)، أعني استيعاب الإنسان لإمكان مقاربة العقل ذي النظام المنطقي للكون ذي النظام السببي بما هما نظامان مختلفان عن بعضهما، بحيث تصبح مهمة المنطق التخلي عن صوريته ومبادئه لفهم وإدراك العلاقات الفعلية التي تقع خارج نطاق العقل والتي لا تنسجم مع منطقه الصوري.
كما أن الثابت الوحيد في الشريعة ليس نصوصها، إنما قابلية نصوصها للانتظام وفقا للإرادة الإنسانية، وهو معنى ظهور العلم العملي في الإسلام باكتشاف التلازم بين الروح والإرادة (الدوافع والغايات)، أعني استيعاب الإنسان ما تشترطه الروح الإلهية ذات العلل الغيبية في الإرادة الإنسانية ذات العلل التاريخية بما هما كيانان مستقلان، بحيث تصبح مهمة العزم الإنساني التخلي عن إخلاده ليستقيم فعله مع شروط الروح الإلهية التي تقع خارج إطار الإرادة الإنسانية ولا تنسجم مع مراده الدنيوي إلا بالقدر الذي يشتد فيه عزمه.
حيث الأخير هو تمامٌ، أو قل بُلغةٌ معنى الإنسان التاريخي المقابل لمدلول الإنسان الطبيعي، كما يبحثه علم العمران الخلدوني، حيث تشكل محاولة الإنسان تجاوز تكوينه الطبيعي أولى درجات تشكل “العلم العملي” بما هو حالة تصاعد لممكنات الروح والإرادة، وهو ما لا يكون ممكنا إلا باستيعاب تام لمعنى “العلم النظري”، أعني التناسب بين الكون والعقل، إذ لم يعد ممكنا اعتماد العمل بلا نظر ولا النظر ممكن بلا عمل.
ختاما: فإن المقابلة بين الطبيعة والشريعة تقع في موضوع سيادة الإنسان عليهما أو تبعيته لهما، وهي الوجه الآخر للمقابلة بين الطبيعة والحضارة التي تقع في موضوع تحرر الإنسان من الوضع الطبيعي إلى الوضع التاريخي، إذ المقصود بالطبيعة في مقابلتها بالشريعة قوانينها الثابتة الصماء، أما المقصود بالطبيعة في مقابلتها بالحضارة الركود التام للحيوية البشرية وفساد معاني الإنسانية، ما يعني أن التحرر من الطبيعة نحو الحضارة يقتضي إلماما بقوانين الطبيعة للتمرد عليها، وإلماما بقوانين الشريعة للتوافق معها، لذلك فإن الحركة التاريخية الصاعدة لأية أمة هو تأرجح مستمر من تقدير سجون الطبيعة وتقدير كيفيات التحرر منها، والله أعلم وأحكم، د. محمد عبد النور 15/02/2024
———————————-
(*)- قدّم الأستاذ أبويعرب المرزوقي في “تجليات الفلسفة العربية” تحليلا مهما لإشكالية علاقة الإنسان بالطبيعة والشريعة بوصفها المعضلة الفكرية المؤسسة لافتراق الفرق الكلامية والفلسفية في العهدين العربي واللاتيني، بميل فصيل إلى عبادة الطبيعة والآخر إلى عبادة الشريعة، -وهي في رأيي قدمت بالسبق والوضوح غير المسبوق، والتي ستؤسس لما بعدها من تحرير الإنسان من كل ما يفسد معاني الإنسانية-، والمقصود بعبادتهما تقديسهما والخضوع لهما إلى درجة أن تجعل من الإنسان مسخر في خدمة النصوص والمؤسسات بدل خدمة صالحه الخاص والعام، وهذا ما جاءت الحنيفية المحدثة -الخام مع النبي محمد (ص) والمركبة مع المدرسة النقدية وأعلامها- لنفيه والثورة عليه، وهو ما حول الأمر من عبادتهما إلى تسيدهما معا، فالإنسان يسخر قوانين الطبيعة وقوانين الشريعة لصالحه استنادا إلى مفهوم الفطرة، بما هي حلقة الوصل الرابط بين مضامين الطبيعة والشريعة والإنسان الذي يستخدمها بهدف تحقيق الاستخلاف المطلوب منه.
وبناء عليه يأتي اجتهادنا في هذا المقال في بيان كيفيات التحرر من استعباد الطبيعة والشريعة للإنسان، سواء من حيث الجمود عليها وعلى نصوصها، أو من حيث الخضوع للأفهام التاريخية/المؤسسية نحوها، باستبدالها بحقيقة أن تكون الطبيعة والشريعة وما يتفرع عنها من المعارف والقيم والمشاعر والتقاليد بأن تكون كلها معطيات ظرفية حاجبة عن تحقيق الخلافة الإنسانية المباشرة على الأرض تحقيقا للمراد الإلهي، حيث المطلوب هو أن تزوال الطبيعة والشريعة دون توسطات مفسدة للفطرة أو موثنة لأي اجتهاد أو حتى جامدة على حرفية النصوص.