فيوض عالم الغيب على عالم الشهادة، كيف تحصل؟ وماذا تشمل؟

مُفتتح: “لو عُرضت عليه مشكلات العالم المعاصر لتمكن من حلها ريثما يتناول فنجان قهوة”، برنارد شو عن النبي محمد (ص).
تأتي الفيوض الإلهية على الخلق على قدر رياضتهم، والفيوض ليست أفضالا يتفضل العباد بها على أنفسهم، بل هي من تعليم الذات الإلهية لهم {واتقوا الله ويعلمكم الله}، فلا يقال فلان عَلِم غيبا، بل يقال فلان عُلِّم غيبا؛ والغيب كل ما غاب عن العبد مما عَلِمه آخرون، كما والغيب كل ما أصبح مشهودا بعد أن كان غيبا؛ والخلاصة أن الكون ينطوي على غيوب مطمورة لا تظهر إلا في وقتها: “ولله في كل غيبٍ يُظهره في كونه ميلادٌ” الشيخ الشعراوي.

وذلك، مثل المكتشفات العلمية والاختراعات التقنية، فقد كانت في عالم الغيب قبل ظهورها في عالم الشهادة، ومحصّل الأمر أن لحظة اكتشاف العالِم واختراع المخترع هي ميلاد جزء من الغيب في عالم الشهادة، وإن ذلك لا يكون إلا بعد تحصيل أسباب الاكتشاف والاختراع.
وعليه فإن ما يحصل فعلا هو أن لحظة الاكتشاف أو الاختراع السببي “يتزامن” مع المشيئة الإلهية في إظهار الغيب على يد أحد البشر، وهو تزامن يحدث بالتدرج خلال تطور التاريخ، ولو لم يكن الأمر كذلك لكان أن البشر قد علموا كل شيء منذ اللحظة الأولى لوجودهم على الأرض، وعليه فإن مهمّة العلم من منظور الفيض الإلهي هي كشف الغيوب، وذلك ما يبحث فيه العلماء ضمن الجماعات العلمية التخصصية وغيرها من الإشكالات العلمية والفلسفية المستعصية التي تشكل ذروة العقل الإنساني(1).
ذلك، مع استدراك مهم وهو أن المعرفة العلمية هنا كمثال فقط، ذلك أن ما يجود به عالم الغيب على عالم الشهادة يتجاوز البحث العلمي بمنظوره المادي إلى ما هو أوسع فيما يتعلق بفن العيش وحكمة الحياة، ذلك أن الفيض الإلهي غير مشروط بالمعرفة العلمية العقلانية، إنما هو أوسع شمولا وأبعد غورا، فهو أشمل للناس لا بشرط المعرفة العلمية، وهو أبعد غورا لكونه أعمق في ملامسة جوانب الحياة، كحكمة المعاملات بين البشر، وإدراك دلالات أفعالهم وأبعادها، والقدرة على التوقع وإبصار المستقبل وكل ما غمض من الواقع، وصولا إلى تفسير الرؤى والأحلام… وكل ما لا تدخله المعرفة العلمية المادية الحديثة في حوزة اهتمامها (2).
والمحصلة هي أن افتكاك أسرار الكون الغيبية على نوعين:
1- بمقدمات: كما تقدّم في المعرفة العلمية المادية، وتتجلى في الاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية، وذلك ما يصفه بدقة ماكس فيبر في حديثه عن مهنة العالم، حيث أن لحظات الإشراق الحقيقية للباحث المبدع تكون خلال أوقات الاسترخاء بعيدا عن انقباض العمل البحثي المخبري والمكتبي، إذ هي لحظات انبجاس الأفكار والملاحظات والفرضيات التي تشكل قطب رحى الإبداع المعيّن.
2- من دون مقدّمات: أي أنها لا تنتظر أن يتصل بها عقل إنسي يتعاطى المعرفة العلمية الحديثة مثلا، بحيث تنكشف كأحداث وتطورات في الواقع بعيدا عن متابعة العقل لها، وهي تتجلى في شكل مفاجآت تاريخية وطبيعية لا تتجاوز الأسباب والقوانين الطبيعية إنما تكشف عما خفي منها على العقل، وذلك ما يعرف في الأبجديات العلمية الحديثة بـ”الثورة العلمية” التي تحصل بعد تكاثر المعطيات الفعلية التي تكذب النموذج المعرفي السائد في تصور سيرورة عالم الشهادة بما يقتضي تطوير تراكم نظري جديد يؤدي إلى تأسيس نموذج معرفي آخر.
أو ما قد يكون إصلاحا جزئيا في المعرفة عند ظهور نظرية جديدة بديلة عن النظرية أو النظريات السائدة، وذلك ما عبر عنه اعتراف انشتاين عند اطلاعه على نظرية الكم: “لم أكن أتصور أن الله يلعب النرد مع الكون”، في إشارة منه إلى ما تكشف عنه النظرية الجديدة من انهيار التصور الحتمي للطبيعة…
وكذلك يحصل في التحولات الكبرى على المستويات الذرية، ففي عالم الاعتقاد الفردي، قد يكون حدث شخصي أو في محيط الشخص دافعا لمراجعات عميقة قد تقلب اعتقاد الفرد وسلوكه رأسا على عقب رغم أن مساره الفكري كان يتجه في اتجاه مختلف تماما، وكذلك في العالم الاجتماعي الذي قد يشهد حدثا أو أحداثا تؤدي إلى تغيرات شاملة سريعة أو بطيئة في الشعور العام، رغم أنه كان يسير في اتجاهات متخالفة.
وعليه، إن من الغيب ما يستأثر الله به إلا بمقدار {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء}، كما أن مما يستأثر به لا يمنحه إلا لمن خصه الله، استنادا إلى حجم الرياضة والمجاهدة {ولا يظهر من علمه إلا لمن ارتضى من رسول}، وهي الحالة التي تنتج عنها مرتبة الولاية بما هي القرب المتبادل بين الله والعبد، وبما هو المجموع الدلالي للآيات {فالله هو الولي} فهنا القرب إلهي إلى العبد، {إلا إن أولياء الله} وهنا القرب من العبد إلى الله، وأخيرا {الله ولي الذين آمنوا} حيث القرب صفة والتزام دائمين عبر شرط الإيمان؛ على أن اختصاص الرسول بالكشف في الآية لا يدل على الحصر، فقد ورد لفظ “رسول” مطلقا دون تعريف، فالرسول هنا قد يكون أيا كان من الناس يتولى حمل الرسالة في أمر مخصوص، وذلك بشرط التأسي بالرسول، {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة}.
فالهِبات الإلهية قد تعطى لأي شخص ممن له عند الله قرب، ليتخذ مرجعا في العلم أو قدوة يهتدى به، لكنها أبدا -كما يؤكد الشيخ الشعراوي- لن تتحول إلى وظيفة دائمة أو متوارثة {قال ومن ذريتي، قال لن ينال عهدي الظالمين}، كما وأن {عنده مفاتح الغيب} فهو دائما يستأثر بها ولا يملّكها أحدا من عباده. د. محمد عبد النور، 2022/07/16 شرحا وتعليقا وزيادة لما ورد في تسجيل للشيخ الشعراوي في شرح آية: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، ولله الحمد.
———————————————————
(1)- ينظر مقالنا: النبوة وورثتها في عصرنا، على الرابط (https://bit.ly/3aFCbfr) مع ملاحظة أن الخاتمة الواردة في آخر المقال من وضع محرر الموقع دون إذن من الكاتب!
(2)- وهنا من المهم التوقف عند أصل الأزمة الإنسانية الراهنة التي تصدر بشكل رئيس عن إنكار الغرب الحديث للمعرفة الفيضية – التي يسميها رينيه غينون بالمعرفة الوهبية- فالغرب على إنكاره المعرفة الفيضية مطلقا منذ ديكارت، إلا أنه ما يزال يتلقى الفيوض في مجال صغير ودقيق هو المعرفة العلمية فهو يوهب ذلك لتناغمه مع الأسباب الطبيعية لصدقه في طلبها، وهو بعد ذلك أعجز عن إدراك الجوانب الأخرى من الوجود كما تبين في صلب النص.
حيث الأخطر في كل ذلك أن إنكار القرون للمعرفة الفيضية أدى إلى أجيال منقطعة عن/ وجاهلة تماما بالمعرفة الفيضية التي هي أوسع بكثير من مجرد المعرفة المادية بعالم الشهادة، ويذهب غينون أبعد من ذلك بقوله أن كل ما لا مس المعرفة الفيضية في الفكر الغربي الحديث ليس إلا تعويضا محرفا ومتبذلا عن ما انقطع عن التراث الغربي من التقليد المسيحي منذ العصر الوسيط وأصبح الجهل به من شبه الحتميات الراهنة في العالم الغربي، والتي أصبحت بدورها شبه عميمة على العالم بأسره.
داخل المقالات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167244
اليوم : 126
الأمس : 117
هذا الشهر : 4420
هذا العام : 15956
مشاهدات اليوم : 509
مجموع المشاهدات : 506663
المتواجدون الآن : 2