العوامل المعيقة للتنمية الاقتصادية في البلدان النامية عند مالك بن نبي

ترتكز فكرة المقال على العوامل الجوهرية التي تعيق التنمية الاقتصادية في البلاد الإفريقية الآسيوية، وهي العوامل التي تنقسم إلى عاملين رئيسين هما: 1- الجانب النفسي-القيمي، و2- الجانب الاقتصادي الصرف، فأما الأول فيرتكز على معطيين، الأول موروث من التاريخ وهو هيمنة فكرة الزهد الصوفي على إنسان تلك البلاد، والثاني تركز فيه بفعل الاستعمار وهو ارتباط قيمة العمل بالعبودية، وأما الثاني فيرتكز على معطيين أيضا، الأول مرتبط بعدم القدرة على الإنتاج الزراعي والتصنيع، والثاني مرتبط باحتكار البلدان الاستعمارية تسعير المواد الأولية الصادرة عن البلدان المستعمَرة.  

  • قيمة العمل ونفسية الزهد والخوف من الجوع:

بعد أن أصبح الاقتصاد في الغرب الركيزة الأساسية للحياة الاجتماعية وقانونا جوهريا لتنظيمها، ظل الاقتصاد في المجال الأفروآسيوي رهين الحالة الطبيعية غير منظم ولا واع، وذلك لما انطوت عليه نفسية هذا الإنسان من مركّب “الزهد” متخذة منه مثلا أعلى عبر القرون، لذلك لم يكن ممكنا أن يرتفع وعي هذا الإنسان وعيه إلى “المنفعة” الرأسمالية، ولا إلى أفق “الحاجة” الاشتراكية.

يتنافر الزهد مع قيمتي المنفعة والحاجة ويؤسس لهوة لا يمكن رأبها بين شخصية الإنسان الأفروآسيوي وبين التكوينات الاقتصادية التي وضع أسسها الاستعمار، وعلى ذلك فإن أي علاج للمشكلات التي يعانيها المجال الأفروآسيوي سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية لا يمكن أن يكون فاعلا إلا إذا وجد في وضع غير متعارض مع عناصر “المعادلة الشخصية” السائدة في الوسط الذي يراد تطبيقه فيه.

والمقصود بعناصر المعادلة الشخصية هو أنه ولكي تؤتي النظريات الاقتصادية تأثيرها الاجتماعي لابد أن تتجاوز الاعتبار العلمي في المنصة الأكاديمية إلى الاعتبار الشخصي في التجربة الاجتماعية التي يتجسد فيها الوعي الفردي بشكل عيني يقدم فيه للمختصين ظروف صلاحية التأثير.

انحطت فكرة “العمل” عند الإنسان الأفروآسيوي بعد أن استحال “العمل” خلال الحقبة الاستعمارية إلى أداة استرقاق تستهدف إثراء المستعمَر، فضلا عن أنه كان يحصل على خبزه من ذلك الاسترقاق بمنطق المنحة لا بمنطق الحق؛ لقد نمى الاستعمار في الإنسان المستعمَر نفسية “الخوف من الجوع”، وهو ما حطّم كل إمكان للتكيف مع الأوضاع الاقتصادية، وهي العقدة التي تتجلى في الغني في ظاهرة البطنة وعند الفقير في وضع المسغبة التي تصل بالإنسان إلى الموت جوعا.

هكذا انحطت السياسة الاستعمارية الاقتصادية بالإنسان الأفروآسيوي من الحالة التأملية الواعية للإنسان الاقتصادي إلى الحالة النباتية التي انفتح فيها على اقتصاد القرن العشرين وهو لا يملك أية قدرة ولا وسيلة لإشباع حاجاته، وذلك نتيجة للاستعمار الذي لم يسع لتحرير الإنسان المستعمَر بقدر ما سعى لتكريس العبودية الاقتصادية فيه، وهو ما شمل جميع طبقاتها بما فيها البورجوازية التي تتصرف بمنطق الزهد والجوع أيضا.

وعليه، فإن مشكلة الإقتصاد الأفروآسيوي -حسب بن نبي- تنحصر أساسا في تكوين “وعي اقتصادي” بما يقتضيه من تكوين شخصية الفرد وعاداته، وكذا نسق نشاطه وطريقة مواجهته للمشكلات الاجتماعية، وإن الكلام عن الوعي يعني الإشارة إلى كفاءة إنسانية مهمة جدّا تتمثل في “القدرة على التأثير” والتي لها في العالم الحديث مقاييس محددة، وهي قدرة ضرورية لأي إنتاج ممكن، وإن ما يجعل الإنسان الأفروآسيوي عاجزا عن تحقيق أقصى إمكاناته التأثيرية، وبالتالي الإنتاجية هو تدني درجة النمو الاجتماعي من جهة، والنقائص النفسية من جهة أخرى.

إنها وضعية موروثة تمنع ميلاد وعي اقتصادي، فليست الوسيلة المادية هي المفقودة فقط، إنما المفقود الرئيسي هو الاستعداد العقلي الذي يحقق فعليا النمو الاقتصادي ومن ثم تحقيق الثروة والرفاه الفردي والجماعي، فالدخول إلى عالم الاقتصاد يقتضي من رجل البلاد المستعمرة التخلص من الحالة النباتية والانتقال إلى الفاعلية، بمعنى أن يتحول من التفكير في مجرد البقاء إلى التفكير في الاستغلال الأمثل للموارد المادية والبشرية لبلده.

  • عوائق النمو الاقتصادي البحتة:

لكن وإضافة إلى الجانب الإنساني يرى بن نبي أن هناك عوامل اقتصادية بحتة لابد من الانتباه إليها، مفادها أن بلوغ درجة التصنيع في البلدان المستعمرة يعتمد أساسا على: 1- الزراعة و2- المواد الخام، فهما في نظره ثديا الاقتصاد الأفروآسيوي ووسيلتا بعثه، وعدم قدرة البلدان المستعمرة على حل مشكلاتها الابتدائية يجعل دخوله العهد الصناعي أمرا مستحيلا، ذلك أن معاناته من مشكلة الجوع والخوف منه تعود رأسا إلى نقص الإنتاج الزراعي، وهو نقص معيق عن النهوض الاقتصادي، وهذا النقص مرتبط بعاملين أساسيين هما: 1- وسائل الزراعة العتيقة، 2- طبيعة الملكية العقارية.

يشير بن نبي إلى التحول الجوهري الذي يشهده الاقتصاد في القرن العشرين، والمتعلق بالنطاق، فإذا كان اقتصاد القرن الـ19 حصل في إطار قومي، فإن اقتصاد القرن الـ20 يتجه ليكون اتحاديا في شكل أقطاب واتحادات صناعية، وعليه يرى بن نبي أن القومية الاقتصادية مثلها مثل القومية السياسية قد فات أوانها، فضلا عن ذلك فإنها تتجه أيضا لتكون خلوا من الأيديولوجيات، وهو ما يعين على تحقيق فصل قاطع بين السياسة والاقتصاد.

يواجهه العالم الأفروآسيوي مشكلة تسويق المواد الأولية لكونه لا يمتلك القدرة على تصنيعها، وذلك ما يجعله في مواجهة محور واشنطن-موسكو ذي الإمكانات الفائقة في تصنيع تلك المواد، لكن مشكلة التسويق لا تتوقف في العامل الفني، أي عدم القدرة على التصنيع، إنما يعود إلى السياسة الغربية الميكيافلية التي ترهن المواد الأولية إلى منطق البورصات المزيف؛ فسعر المادة الأولية تحدده البورصة وليس قانون العرض والطلب.

إن العلاقة بين المواد الأولية والعملة يحدده طرف واحد هو التراست (Trust)، أي أن المواد الأولية خاضعة في تحديد سعرها للرأسمال كلية، بينما المفترض أن يحدد السعر العمل لا العملة، فالسعر الذي تباع الذي تباع به المواد المصنعة يصل إلى ضعفي أو ثلاثة أضعاف سعر المواد الخام، وهذا إجحاف كبير؛ وإن كان يمكن تجاوز ذلك عبر المقايضة المباشرة للسلع، مادة خام بمادة مصنعة، فإن لم يكن بحساب سعر المادة الأولية فبقيمة العمل، وهكذا يمكن تحييد العملة وتجاوز الاعتبارات المالية والسياسية والاستراتيجية الساعية لإبقاء البلاد المستعمرة في مجال المواد الأولية ومراوحته.

أخيرا يرى بن نبي أن إمكان تحقيق الهدف من التحرر من الارتهان للبورصة والعملة يكمن في التنظيم المحكم لسوق المادة الأولية بمنطق اقتصاد موحد بين البلدان الأفروآسيوية، لكن ما يعيق إمكان فك الارتباط السلبي بين الكتلة النقدية الغربية وكتلة المواد الأولية الأفروآسيوية هو شذوذ بعض حكومات البلدان الأفروآسوية الراضخة لغة القوة بحكم الضرورات الداخلية في تلك البلاد وبحكم تجاهها في تلك اللحظة إلى اعتبار السلام والرغبة عن المواجهة.

  • خاتمة:

ختاما، وبعد عرض ملخّص لأفكار بن نبي الواردة في الفصل السادس من كتابه الإفريقية الآسيوية، نستخلص أن التحرر من الارتهان السلبي في المسألة الاقتصادية في البلدان النامية يكمن أساسا في إنسانها، فهو مرتبط أساسا بضرورة التحرر النفسي من النظرة السلبية الخفية للعمل، فالعمل نشاط إيجابي يساهم بشكل فعّال في التنمية الفردية والجماعية، واعتبار الحق في أجرة العمل حقا لا مزية يتفضل بها أحد على العامل أو الموظف، كما أن من الضرورات القصوى في المسألة الاقتصادية أيضا العمل على إنشاء وتنمية “فنون الصناعة” التي تمكن الإنسان في البلاد النامية من تولي أمر تصنيع المواد الخام التي يمتلكها في بلده لفك الارتهان بالقوى الاقتصادية الكبرى، وذلك عبر التطلع إلى تجاوز الوسائل التقليدية في مجال الزراعة  أولا ثم التصنيع ثانيا، وانتهاء إلى النخب الحاكمة التي يجب أن تتجاوز لحظة العمل لأجل البقاء إلى العمل لأجل القوة والمنافسة.

وإن السعي والعمل لأجل تحقيق تجاوز العوائق الداخلية للاقتصاد النامي سواء الإنسانية منها أو الاقتصادية البحتة، فإن تجاوز العوائق الخارجية سيكون تحصيل حاصل، ولعل اللحظة التاريخية الحالية مناسبة جدا للتحرك وفقا للمعطيات الجديدة، فهي اللحظة التي بلغت فيها المنظومة العالمية الحالية حالة انسداد سواء في الجانب الاقتصادي حيث العالم على حافة أزمة اقتصادية شاملة، و الجانب السياسي حيث العالم مقبل على إعادة صنع خرائط القوة عالميا.

 

داخل شروح, مالك بن نبي
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167257
اليوم : 139
الأمس : 117
هذا الشهر : 4433
هذا العام : 15969
مشاهدات اليوم : 606
مجموع المشاهدات : 506760
المتواجدون الآن : 2