أو في أن العلم يقتضي معركتان: 1- معركة الدفاع عن السببية ضد المنطقانية، 2- ومعركة الدفاع عن الإمكان النسبي في الطبيعة ضد الحتمية المطلقة.
قولان أثيران عندي، قولة إقبال حول ضرورة تتبع تقدم الفكر البشري الذي لاحد له، وأن على الباحثين متابعة هذا التقدّم، وأن عليهم أن يرقبوه بحس ناقد، وقولة موران عن أن العلم لا يتقدّم على بساط أخضر بل تقدمه يحدث بصراع مستمر ضد الخطأ، ولو ركّبنا القولين ببعضهما سنخرج منهما بمعان جمّة ومهمّة. وهو ما سأحاوله في البسط التالي:
1- حقيقة أن الفكر البشري والمعرفة العلمية يتقدّمان بلا توقف، ولعل ذلك يعني من جهة الكشف المستمر عن المجهولات بفضل البحوث العلمية، وبفضل الكشوف العلمية يستهدي الفكر الإنساني بمعطياته الموضوعية فيبقى دائما مراوحا للحقيقة، فهو وإن انحرف عنها لكنه لا يلبث أن تعيده الموضوعية إلى الصواب. وهنا يكون الخطأ جزئيا ناتجا عن عدم تماسك منطقي يمكن تداركه.
2- حقيقة أن العلم يمكن أن يصاب بالانحراف أو التزييف، فيكون العلم منحرفا حينا أو مزيفا أحيانا، وانحراف العلم معناه الخروج عن التعليل التجريبي والسببي، فينفصل عن مصدر الصواب المستمر فيه وهو التجربة المادية أو الفعلية، والتحليق في تجريدات خيالية لا دليل حسي ولا منطقي عليها، ولما يكون الانحراف والتزييف كاملا نجد أن مناهج ونظريات كاملة تبنى لتبريره. وهنا يكون الخطأ والزيف كليا لا يمكن تداركه.
3- حقيقة أن البقاء في مضمار العلم الحقيقي يقتضي تحيزا ومواجهة للعلم الزائف، فليس العلم مجرد حديقة غناء تحوي فقط الثمار اليانعة والعشب الأخضر، ففي الحقل العلمي أشواك ضارة وطفيليات تفسد الزرع والنبت، وأول معارك التاريخ العلمي هي معركة سقراط ضد السفسطة دفاعا عن الفلسفة، وهي ذات المعركة التي نشهدها اليوم في العلم بين المنطقانية الجوفاء والسببية التجريبية.
4- حقيقة أن الفكر العلمي عرف نقلة نوعية في التاريخ بفضل ظهور “الفلسفة الإسمية” التي نقلت صورة الوجود عند المشتغلين بالعلم من تصور الضرورة في الوجود إلى تصور الإمكان فيه، فكل الوجود في الحقيقة كان وهو إلى الآن مجرد ممكن من بين ممكنات، وكل القوانين العلمية كانت وهي الآن مجرد ممكن من الممكنات ولم تكن يوما ضرورة مطلقة، وهذا يؤسس للتصور الشهودي للوجود المتحرر من وهم المطابقة بين الفكر والوجود.
ومشكلة المطابقة هي أصل الداء في البحوث والنظريات العلمية، فهي أصل مشكلة التصورات المركزية التي تغيب النظر الموضوعي إلى العالم وتتصور النتائج “حقائق مطلقة” ولو ظرفيا وهو ما يظهر في مقدمات البحوث العلمية وتفسير نتائجها.
ومن الأخيرة، نفهم جيدا أن الفكر العلمي لا يسعه إلا أن يكون ذا بعد وجودي-أيديولوجي هو ما يظهر في تفسير النتائج العلمية وتأويلها لا في الاكتشاف والتحليل العلمي، وذلك الذي عناه إقبال بضرورة القراءة النقدية لتقدّم العلم الذي لا يزال متركزا في الغرب، وبالتالي فإن جوهر مقولة إقبال أو مقصدها النهائي يكمن في دفع الباحثين إلى الجمع بين:
1- المتقدم من العلم: الذي يحصل في أحشاء العقل البحثي في الغرب في أيامنا والذي تمثله فيما أحسب “الثورة الحيوية” باعتبارها ابستمولوجيا ناتجة عن التصاهر بين البراغماتية التي تقوم على المربع المفاهيمي: 1- جدلية الشك واليقين، 2- نفعية الأفكار. 3- كونية الرموز، 4- البحث الجماعي، والدارونية المحدثة في مخرجاتها النظرية، خاصة ما تعلّق بالمربع النظري المتمثل في: 1- التكاثر أو غريزة البقاء، 2- التكيف أو البقاء للأصلح، 3- الوراثة أو انتقال الخصائص. 4- الطفرة أو إعادة التركيب.
2- المتقدّم من الفكر: الذي حصل في لب العقل المسلم في لسانه العربي والذي تمثله المدرسة النقدية العربية، باعتبارها ناتجة عن تجاوز العقل اليوناني المُعلي من شأن الروح والمُحقّر لشأن الجسد، وهذا المدخل الرئيس لمؤسسي المدرسة النقدية إلى استكشاف أحادية المنهج اليوناني في التفلسف، وبه فالفلسفة النقدية كانت نتيجة للجمع بين حقيقة “الإمكان” في الطبيعة وأهمية “الأبدان” في الشريعة.
الآن من الأهمية القصوى تحديد إحداثيات ما تقدم والتقاطعات والتفاصلات بينها:
1- البحث العلمي المنطلق من الحس سيصل بالتأكيد إلى كشوف مستمرة بمجرد اعتماد السببية التجريبية، وأن الخطاب الذي يجانبها لا يعدو أن يكون مجردات مثالية أوخيالية لا علاقة لها بالحس العلمي، وسيرواح مكانه في ملاكات لفظية قد تبهر السامع ذو النزوع الأدبي لكن لا تقنع السامع ذو النهم العلمي، وبالتالي فإن المعركة الحالية في صميم البحث العلمي هي بيان أن ما لا يعتمد الخبر الحسي لا يمكن أن يكون علما حقيقيا، فهو ليس إلا علما زائفا.
2- الفكر العلمي ذي المرجعية الواقعية في تصور الكلي، والمُطلِق لنتائجها رغم الكشوف المستمرة، فهو يتصور القوانين العلمية حتميات مطلقة وليست حتميات نسبية وممكنة، وأن الخطاب الذي ينتج عن ذلك سيعتبر الطبيعة إلها، وقوانينها تعبر عن ماهية وجوهر الطبيعة، ومن ثم فإن البحث الذي يستبطن أن الطبيعة وقوانينها موجودة بذاتها ولذاتها سينتهي بالضرورة إلى إنتاج فكر متجوهر لاقدرة له على استثمار البحوث العلمية في تحرير الفكر الإنساني، ومن ثم فهو عاجز عن الخروج من شرنقة الجمود وذلك ما يؤدي إلى تقييد موضوعيته من حيث توجيه البحث سواء بمعية مابعد الطبيعة أو بمعية الرجل غير الأبيض، فهو إذن يعزل فكره عن الحيوية التي تحصل بفضل التمييز بين الطبيعة الصماء ومصدر الطبيعة الحي، كما يعزل فكره عن الحيوية التي تحصل بفضل عدم التمييز بين الناس على أساس العرق أو التاريخ أو الجغرافيا، فهو إذن فكر جامد.
والحاصل الفعلي الآن في البحث العلمي هو أنه يُصَدِّق ما ذهب إليه إدغار موارن بأن العلم الحقيقي سببي تجريبي ولكي يبقى العلم حيا لابد من الدخول مع العلم الزائف اللاسببي وغير التجريبي في منازلة، وذلك ما يتجلي خاصة في نمط التفكير البنيوي وما بعد الحديث وما شاكلهما، بوصفها نماذج معرفية لا تهتم بضرورة إقامة العلم على أصوله السببية التجريبية، فهو ضرب من السفسطة المحدثة، أما الحاصل من الفكر العلمي الآن فيُصَدِّق ما ذهب إليه محمد إقبال بأن المتابعة الفاعلة لتطور المعرفة البشرية تقتضي حسا نقديا متحررا من تأليه الطبيعة والاعتقاد بالضرورة المطلقة للقانون الطبيعي، وذلك ما يتجلى خاصة في التأسيس الأوروبي للفسلفة القاري منها واللاقاري وما دار في فلكهما، بوصفها تنطوي على سنن فكرية لا تهتم بضرورة إقامة العقل على أصوله الكونية -ببعديه: شمول الإنسانية وإسمية العلم- فهو ضرب من الجحود.
وبه فقد اتضح أن الكدحان يتجهان نحو توسيع الكفاءة المحورية في الاشتغالين العلمي والمعرفي وهي: الموضوعية، ذلك أن تحقيق الموضوعية في البحث العلمي يقتضي السببية التجريبية البحتة، وأن تحقيق الموضوعية في الفكر العلمي يقتضي تنسيب القانون العلمي وإنزاله منزلة الإمكان لا الإطلاق.