- مداخلة ألقيت في ملتقى الأوراس الخامس الذي نظمته جمعية العلماء المسملين بمدينة خنشلة في الجزائر يومي 10/11 أفريل 2015.
سؤال الهوية هو سؤال العيش المشترك من الناحية العملية، ذلك أن الهوية أولا تتحدد تبعا للآخر، أي أن الهوية هي معرفة ما يميز الأنسان عن الآخر فردا وجماعة أو أمة، وهذا سؤال أصيل في الوجود الإنساني تتجلى رمزيته في موقف ابني آدم هابيل وقابيل. كما وتجلى ذلك في آخر مظاهرها الحضارية ضمن شعار "الأخوة" الذي رفعته الثورة السياسية في فرنسا، بمعية شعاري الحرية والمساواة، والأخوة في هذا السياق يقصد به الرابطة التي توحد المواطنين في الوطن الواحد. كما تجلت مسألة العيش المشترك في الكثير من المواضع في النص القرآني وتوجيهات الشرع الحنيف، وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: الدين المعاملة.
- إشكالية الفطرة وصلة الرحم
من حيث المبدأ يولد الإنسان منتميا بالضرورة إلى هوية قرابية لا خيار له فيها، فهي تُختار له كما يختار جنسه ولونه وهيئته، وهو في ذات الوقت يولد على الفطرة السليمة كما ورد في الحديث النبوي الشهير {ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه} متفق عليه. بالمقابل فإن تأثير البيئة على الإنسان ضرورة ناشئة عن فعل التربية الذي يتولاه الوالدان البيئة الاجتماعية عامة، والتربية في أحد معانيها التدخل في طبيعة الإنسان لتكييفه وفقا للقيم والتقاليد والأعراف السائدة. من هنا تنشأ المعادلة التي هي ذاتها جوهر الابتلاء في الخلق، الحفاظ على الفطرة السليمة والاندماج الكامل في المجتمع، والمعلوم أنه كلما زاد اندماج الفرد في المجتمع كلما كان من الناحية العملية أكثر نفعا وفعالية والعكس بالعكس. والمعلوم أيضا أن المجتمعات في غالبها تحرص على القيام بدمج أفرادها وتحقيق تكاملهم معها من خلال العناية بالتربية ومؤسساتها، كما أن معيار نجاح الأبوين في تربيتهما هو إنتاج أفراد أسوياء يتكاملون مع المجتمع. والدين في مقابل ذلك يحث على صلة الرحم، والرحم هي منبع التعصب، والتعصب من العصب والأعصاب، والأعصاب هي مجرى الدم في الإنسان، ومنا تنبع النعرة، وفي ذلك قال ابن خلدون في فصل تكون العصبية من الالتحام بالنسب من كتاب المقدّمة بأن صلة الرحم من النعرة على الأقرباء أن تنالهم مظلمة أو هلكة، والقريب يجد غضاضة في ظلم قريبه نزعة طبيعية في البشر منذ الخلق، ومن ثم فإن فائدة النسب الالتحام الذي يوجب صلة الأرحام حتى تقع المناصرة واللحمة. لذلك كان من الواجب التمييز بين العصبية التي هي صلة للرحم لا تناقض الدين بل هو يحث عليها، وبين العصبية التي تقف حائلا دون تحقيق قيم الدين، ومن هنا يتضح أن العصبية عامل ذو حدين، والعصبية بحاجة إلى توجيه الدين لتكون الشرط الواقعي والضروري لتحقيق القوة والسواد، ذلك أن العصبية هي ذاتها الشرط الواقعي الذي قامت عليه دولة المدينة، وفي ذلك يقرر ابن خلدون في فصل انقسام الدولة إلى قسمين من المقدمة: "وانظر إلى ذلك في الدولة الاسلامية العربية حين كان أمرها حريزا مجتمعا، ونطاقها ممتدا في الاتساع، وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر، فلم ينبض عرق الخلاف سائر أيامه"، فالإشارة هنا واضحة إلى أن نجاح الدعوة المحمدية كفلته عصبية بني عبد مناف التي كانت العماد الواقعي الأساسي لقيام الحضارة الإسلامية قاطبة.
- أساس المجتمعات الحديثة وعلاقتها بالعصبيات
تقدم أن بناء الشكل السياسي للمجتمع –أي بناء الدول- في الماضي قام على المواءمة بين العصبية والدين، والدين يقيمه الأنبياء بوصفهم قادة وامراء، كما كان يقوم أمر الدولة عامة على الملوك والسلاطين المتغلبين بواسطة عصبياتهم. إلا أن الدولة الحديثة قدمت نموذجا بديلا لذلك وهو إحلال العلم محل الدين في بناء المجتمع مع الإبقاء على العصبية التي تحولت أشكالها وتدثرت في عالمنا المعاصر، والمجتمعات الأمريكية والسوفياتية واليابانية نماذج للمجتمعات القائمة على التخطيط العلمي والمرجعية العلمية معا، وهنا لابد من الإشارة إلى أن العلم هنا يقصد به العلم التجريبي الوضعي الحديث. والفارق أيضا أن العلم في الماضي كان يستخدم لمجرد تحسين حياة البشر من خلال تطوير التقنية و أن الملوك والسلاطين يعتمدون علماء لهم لاستشارتهم في مسائل الحكم، إلا أن العلم في نسخته الحديثة التي ظهرت بداياتها خلال القرن الخامس عشر افتك لنفسه مع بدايات القرن الثامن عشر مكانة التشريع والقيادة وتقرير أدق تفاصيل حياة الناس مثل سن القوانين والاختراعات التكنولوجية الدقيقة، بل وحتى المفكرين صاروا يؤثرون أيما تأثير على الحكام ويبنون تصوراتهم للحكم والقيادة الحكيمة مثلما أثر كتاب الأمير لمكيافيلي على حكام العالم الحديث والمعاصر، فضلا عن تجارب بافلوف واكتشاف قانون المنعكس الشرطي بحيث صار بناء المجتمع والتحكم فيه ممكنا بفضل قانونه عن الاثارة والاستجابة. وقد نتج عن المنهج العلمي ما يسمى بالدولة الحديثة التي توحد بين الانتمائين الجغرافي والإثني، وهو ما عبر عنه "الفكر القومي" الذي يعرف بأنه نموذج اختزالي يتسم بدرجة عالية من التجانس الاثني يكاد يقترب من الانغلاق على الذات، أدى في أوروبا وخلال أحقاب متطاولة إلى صهر أو إبادة أعضاء الأقليات الاثنية التي لا تنتمي للأسطورة القومية. ومعلوم أن المجتمع الحديث وشكله السياسي أصبح نموذجا كونيا عابرا للقارات بنيت على نموذجه غالب مجتمعات عالم اليوم، ومنها المجتمعات العربية والإسلامية التي سبق وأن خاضت تجربتها في قيادة الركب الحضاري والذي لم يسلم هو الآخر من انحرافات عن الأسس الواقعية لقيام الدولة والحضارة – التي تقدم أنها التوحيد بين الدين والانتماء العصبي- فظهر فيها ظاهرتان هما التمدن والشعوبية.
- التمدن والشعوبية في التاريخ الإسلامي المتأخر
يقول ابن خلدون بأن الانتماء إلى المواطن وقع في صدر الإسلام في دمشق وانتقل إلى الأندلس، فصار علامة زائدة على النسب، ثم وقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم، وفسدت الأنساب بالجملة وفقدت ثمرتها من العصبية فاطُّرحت، كما تلاشت القبائل ودثرت فانتهت العصبية بانتهائها. كما تحدث عن اختلاط الأنساب وإذهابه لعصبية وذلك بسقوط أهل الأنساب في نسب آخر بالقرابة أو الحلف أو الولاء، وذلك بفرار من القوم يؤدي إلى الانصهار في نسب الفار إليهم، كما ويحدث أن ينسى النسب الأول بطول الزمان ولا يحفظه إلا أهل العلم فيخفى على الأكثر، وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم بقوم آخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم. أما الشعوبية فهي لفظ يشير إلى التمييز العنصري الذي ظهر بين القوميات الإسلامية خاصة بين الفرس والعرب، ذلك أن الفرس أول من دخل الإسلام من غير العرب، ثم امتدت الشعوبية إلى الهنود والأتراك عند اعتناقهم الإسلام، ثم مولّدي الأندلس و الإسبان المستعربون. وقد عرّف القرطبي الشعوبية بأنها حركة تبغض العرب وتفضل العجم، وقال الزمخشري في أساس البلاغة عن الشعوبيين أنهم هم الذين يصغرون من شأن العرب ولا يرون لهم فضلا على غيرهم، أما الموسوعة البريطانية فتعرف الشعوبية بأنها كل اتجاه مناوئ للعرب. أما علي شريعتي فقد انتقد في كتبه التشيع العلوي والتشيع الصفوي توظيف التشيع الصفوي للشعوبية لأغراض سياسية من بينها الاتجاه الذي يزرع الفتنة ويخلف العداوة والبغضاء والعصبية والنعرات بين الفرس والترك والعرب. وأيا يكن فإن اجتماع الشعوبية الفارسية والقومية العربية والتتريك الكمالي كلها عوامل أفسدت على المسلمين عيشهم المشترك.
- الخاتمة
إن الواقف على الحقائق المتقدمة يدرك كيف أن سؤال الهوية جوهري في اللحظة الراهنة ويدرك مدى تعقده في ذات الوقت، ومن ثم فإن كل ذلك سيجعل من سؤال الهوية الذي مررنا على بعض تفاصيله في متن النص محورا لقضايا المستقبل السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والتي ستكون أبعاده كونية لا محالة. والله أعلم