النماذج الأربع للمعرفة الحديثة

و بعض تطبيقاتها على نظريات علم الاجتماع (1)

 

د. محمد عبدالنور(2)

أخصص هذه الورقة لعرض الخلفية الابستمولوجية التي هي الأساس «المرجعي» لجميع النظريات التي تتضمنها العلوم، فهي وإن لم تغب عنها المسحة التاريخية الكرونولوجية إلا أنها ستعتمد على «نمذجة»، حيث العلاقة متداخلة بين الجانبين التاريخي والظاهراتي، كما سأمثّل في الورقة لكل نموذج معرفي بنظرية سوسولوجية:

أبدأ بالإشارة إلى أن كل نموذج استند إلى ثورة معرفية: الأول: استند إلى الانقلابة الكانطية، الثاني: استند إلى المنعرج اللساني، الثالث: استند إلى التجديد البراغماتي، الرابع: استند إلى الثورة الحيوية الحاصلة راهنا.

  • نموذج فلسفة الوعي:

بعد أن كان التفكير موجها إلى الطبيعة صار موجّها إلى الإنسان (الإنسان مفكرا في ذاته)، الإنسان يفكّر في ذاته، وذلك خاصة من خلال عمل كانط (نقد العقل الخالص)، خاصة فكرة الشيء في ذاته والشيء منظورا إليه، وتأسيس ما سمي بـ «فلسفة الوعي».

كما يكشف عمل كانط الأخير عن «الانتروبولوجيا» الذي كرّسه لدراسة تطور الإدراك البشري من الميلاد إلى غاية النضج، استنادا إلى التسليم بتميز الإنسان بالمعرفة.

وبلغت فلسفة الوعي ذروتها مع هيغل الذي أقحم مفهوم «الروح المطلق» في المنطق وحرره من الارتهان إلى التقابل بين العقل والطبيعة فنزع عن المنطق الصورة الميكانيكية، وعزز مفهوم الذات حقيقة غير خاضعة للسببية.

نتج عن النموذج الهيغلي انقسام على مستوى العلوم الإنسانية، فظهر رجلان يمثلان طرفي النقيض في فلسفة العلوم الانسانية: وليم دلثاي وأوغست كونت، الأول دافع عن الاستقلالية الابستمولوجية للعلوم الإنسانية انطلاقا من خصوصية الكائن الإنساني، والثاني دافع عن تجربيبتها خضوعا للعلوم التجريبية.

فنتج عن ذلك نظرية الفهم عند فيبر الذي جمع بين التأويلية الذاتية والسببية الموضوعية، ونظرية دوركايم التي جمعت بين الوضعية والروحانية، وانتهاء إلى بارسونز الذي جمع بين الفعل الطوعي والنسق القهري.

  • نموذج فلسفة اللغة:

قدم فرنسيس بيكون خلاصته المنهجية حول المنهج التجريبي، ومن أهم ما جاء فيها ضرورة التحرر من المنهج التأملي المدرسي، وكذا تحديده لأربعة أوهام لابد من التحرر منها خلال ممارسة العمل العلمي، أهمها الوهم الرابع وما سمّاه بـ «أوهام السوق»، ركّز فيها على ضرورة الاستعمال السليم وتجنب سوء استخدام اللغة.

أضاف غوتلوب فرايجة على ذلك ضرورة أن يكون المنطق هو الذي يحكم اللغة، بمعنى أن ترتبط اللغة العلمية المعبرة عنها بنسق قاعدي مترابط هو المنطق.

الأمر الذي فتح الطريق لصياغة الفلسفة التجريبية صياغة فلسفية جديدة تقوم على لغة منطقية دقيقة يمكن أن تتوحد جميع العلوم حولها.

فالعلاقة بين المنطق واللغة أمر بديهي، حيث المنطق لا يكون ممكنا إلا بوجود اللغة، وبعبارة أخرى فإن اللغة صارت العنصر التجريبي للمنطق.

كما رأى فرايجة أن اللغة العادية التي نتكلم بها ناقصة، فلابد من البحث عن لغة كاملة على المستوى العلمي وهو ما يكفله المنطق والرياضيات بحيث يكونان المعيار الحاكم على سلامة اللغة والضمان الأساسي لتقدّم الفلسفة ومن ثم تقدّم العلوم.

ذلك الذي هيأ لظهور «المنعرج اللساني» الذي شكّل بؤرة الفلسفة في القرن العشرين وحجر الزاوية الأساسي فيه، فحصل الانزياح من «فلسفة الوعي» إلى «فلسفة اللغة»، بعد أن حصل إدراك أن المنطق لا يدرس قوانين الفكر كسديم سابح في المستافيزيقا بل يدرسه كلغة متجسدة.

خطت فلسفة اللغة خطوات مع «الفلسفة التحليلية» و «الوضعية المنطقية»، فظهر لودفيغ فتنغشتاين الذي اتخذ موقفا جذريا ذهب به إلى القول بأن اللغة هي جوهر العالم، وتحدّث عن ما يسمى بـ «ألعاب اللغة» التي تعني أن اللغة نسبية وليست أمرا مطلقا، وذلك بخضوعها السياقات والقواعد الإنسانية، وأن اللغة تصنعها البيئة الاجتماعية ولا وجود للغة منطقية عالمية.

فظهر جون أوستن الذي قدّم «نظرية أفعال الكلام» ورأى أن للكلام تأثير ينقسم إلى ثلاث أقسام: 1- أثر لفظي يتمثل في الأصوات المتناسقة نحويا، 2- أثر إنجازي بحيث يحقق الكلام أمرا أو استفهاما أو وعدا، 3- أثر فعلي هو ما ينتجه الكلام من سلوك حقيقي.

فأدت هذه التحولات إلى ظهور النظرية «العقلانية التواصلية» عند يورغن هابرماس، الذي اعترف بأن أفعال الكلام هي الواحة الخضراء الوحيدة في فلسفة اللغة.

  • نموذج فلسفة العلامات:

على المنوال ذاته واصل شارل بيرس الذي أوضح بأن اللغة هي جوهر التفكير، وأنها الموضوع الفعلي للمنطق ومادته الخام التي يتعامل معها ويعالجها، وقد اهتم أساسا بيرس أساسا بفلسفة الرمز، باعتبار اللغة أداة من أدوات الترميز، أو أداة علاماتية، فانتهى إلى التأكيد على ثلاث مستويات لـ «علم العلامات» (Semiotics) هي:

1- الرمز (قواعد النحو)، 2- المرموز (الإشارة إلى الواقع)، 3- تأويل الرمز (الأثر الحاصل عن الترميز).

وانطلاقا من تلك المستويات الثلاث التي تعد إضافات تجديدية إلى علم المنطق، اهتم بالمستوى الأخير وهو المتعلق بالأثر الذي يحققه الرمز في الواقع، فكان ذلك مفتاحا إلى ظهور «الفلسفة البراغماتية» حيث استقاها رفقة وليم جيمس وجون ديوي من أربعة مصادر أساسية هي:

1- مبادئ العقل العملي عند إيمانويل كانط التي تشير إلى استخدام العقل بشأن كيفية التصرف.

2- فكرة الإرادة والتمثلات عند آرثور شوبنهاور والتي تشير إلى عدم جدوى إقناع الناس بالعقل، وأن البديل هو محاولة استثارة ما يرغبون وما يريدون.

3- نظرية المنفعة عند جون ستيوارت مل التي تحصر الفعل الأخلاقي في المنفعة.

4- المنظور التطوري عند تشارلز دارون للمبادئ الأساسية في الحياة المتمثلة في التكيف من أجل البقاء، والبقاء للأصلح.

فانتهت البراغماتية إلى أن العقل السليم هو ذلك الذي يبحث عن نتائج عملية مباشرة من الأفكار، وأن المعيار الصحيح للفكرة هو ما تقدمه من منفعة عملية، وهو ما يجعل من الحقائق التي تسكن في عالم المطلقات المثالية أمرا من الماضي.

إن القيم حسب بيرس تنشأ من الواقع الطبيعي، وتكون متغيرة ومتطورة تبعا لنواتج الخبرة التجريبية بكونها هي التي تشهد على قدرة المبدأ الخلقي على حل المشكلات، وليس المبادئ المطلقة والثابتة، وهي نظرة تلتقي تماما مع التطورية وفلسفتها الأخلاقية.

وقد مثلت نظرية التفاعلية الرمزية ورائدها جورج هربرت ميد الفلسفة البراغماتية فشكلت فكرتها الأساسية باعتبار التواصل اللغوي بين البشر هو أساس المجتمع، فرأت بأن أساس المجتمع هي المحادثة التي تعد شرطا في نشأة المؤسسات الاجتماعية، وأن التداول والتحاور بين الناس هو الفعل المؤسس للمجتمع.

ومن جهة أخرى استلهمت نظرية الاختيار العقلاني من البراغماتية فكرة التبادل بين الناس على أساس المنفعة المتبادلة، وأنه لا يوجد فعل اجتماعي دون مصلحة تسكن داخله.

  • نموذج الفلسفة الحيوية:

ظهرت نهاية القرن الماضي وبداية القرن الحالي دراسات تعنى بإعادة قراءة المسلّمة الكانطية القائلة بتميز الإنسان عن الكائنات الأخرى، والذي كان تميزا أشبه بالعقائدي غير متحقق منه تجريبيا، فأدت الاكتشافات التي أبرزتها الدراسات إلى مراجعة مفهوم تميز الإنسان بالعقل والتواصل الأخلاقي.

وقد وجهت تلك الأبحاث فكرتان أساسيتان هما: علم العلامات ونظرية التطور وهو ما يعرف بـ «المقاربة البيوسيميائية» (Biosemiotics) للكائنات، وهي محاولة لجسر الهوة الوهمية بين البشر والحيوان والنبات خاصة (من طريق البيولوجيا) باعتبار أن الكائنات غير العاقلة تتواصل فيما بينها قصديا وأخلاقيا (ميشيل توماسيللو 1999، مارك بيكوف وجيسيكا بيرس 2009)، وكذا إعادة الاعتبار لتأثير البيئة على الإنسان باعتباره العامل المركزي والأهم في تشكل الثقافة والقيم عند الإنسان. (من طريق الإيكولوجيا) (جاريد دايموند 1997).

فهي تعتبر أولا أن انتقال الأنماط الثقافية من جيل لآخر ليس خاصة إنسانية بل تشترك الحيوانات في ذلك خاصة فصيلة الرئيسات، وأنها تقوم بعمليات معرفية معقدة، وأنها أيضا تعيش حياة خلقية بكل تفاصليها، حتى نكاد أن نقرّ أن علم الاجتماع هو ليس علما خاصا بدراسة الحياة الإنسانية.

وبعد بحوث تجريبية عديدة تعتبر تلك الدراسات أن اختصاص الإنسان وتميزه عن بقية الكائنات الأخرى إنما يقوم على (التخاطب مع الأنا) باعتبارها قصدية لا تشترك فيها مع بقية الكائنات، وأن هذا التميز الدقيق والصغير على المستوى المعرفي جعل الإنسان يحقق تقدّما عظيما على نظرائه من الكائنات.

كما أن (الاختلافات البيئية) هي التي تصنع الفوارق بين المجتمعات (بدائية، متخلفة، متقدمة) وهو تفسير بديل عن التصورات التي تفسير التقدم والتطور وراثيا.

 وبالتبع فإن لذلك نتائج عظيمة على المستوى الإبستمولوجي، أهمها هو التغير الجذري في «مفهوم السببية» من وجهين:

1- استعادة السببية كحقيقة كونية شاملة، فتنسحب على ما كان يتصور أنه خصوصي: مثل اللغة والثقافة. وأن الخصوصيات الثقافية تنشأ باختلاط الآليات الكونية مع الظروف المحلية البيئية خاصة طبيعية وتاريخية، وأن اللغة أيضا كعلامات تحكمها آليات بيولوجية وسميائية عامة.

2- وهو اعتبار تأثير المادي على المعنوي (تأثير البيئة على الأخلاق)، وتأثير المعنوي على المادي، (اللغة تؤثر على تكوين المخ)، وجسر الهوة بين العلوم الثقافية والعلوم الطبيعية وتجاوز ثنائية البيولوجيا والسوسيولوجيا، وأن الإبداع العلمي لم يعد ممكنا دون تعاون التخصصات.

  • خاتمة

بعد هذا العرض يتضح أن التنوع الكبير في الأدبيات الابستمولوجية يفتح إمكانات واسعة أمام الباحثين في التضلع في أحد النماذج، واختيار بحوث متناسبة مع الاتجاه النظري، وهو ما سيتيح تبعا لذلك تنوع في طبيعة المواضيع وكذا مناهج البحث والأدوات الاستكشافية الكثيرة التي يكن توظيفها في هذا المجال.

وأخيرا أرجو أنني قد أفدتكم وفتحت لكم نوافذ تفتح الرغبة في الإطلاع على ما تخفيه تلك النماذج من كنوز معرفية وأداوت استشكاف في دراسة الأوضاع المحلية وفهم الأوضاع الدولية، بما يضمن إنجاز بحوث كفؤة، وتقديم إسهام فاعل في الحياة العلمية والعملية محليا ووطنيا ولم لا دوليا.

—————–

(1)- قدّمت الورقة لأول مرة في ندوة الخلفية النظرية للبحوث الجامعية، مارس 2018، كلية العلوم الاجتماعية والإنسانية، جامعة غرداية، الجزائر.

(2)- أستاذ علم الاجتماع، جامعة غرداية، abdennour.mohammed@univ-ghardaia.dz

داخل الملتقيات
أبريل 2025
د ن ث أرب خ ج س
 12345
6789101112
13141516171819
20212223242526
27282930  

الأرشيف

إحصائيات الموقع

167245
اليوم : 127
الأمس : 117
هذا الشهر : 4421
هذا العام : 15957
مشاهدات اليوم : 519
مجموع المشاهدات : 506673
المتواجدون الآن : 2